سوريا اليوم
مراسل صقور الأبداع من سوريا
حبيب عيسى : كلنا شركاء�
�( 36 )
������������ لعل السؤال الأكثر أهمية في هذه الظروف الموضوعية الشديدة التعقيد التي تمر فيها دولة الجمهورية العربية السورية هو : ما هي الهوية الوطنية للشعب في سورية …؟ ، وهل هناك إشكالية حقيقية في تحديد تلك الهوية …؟ .
������������ بداية لا بد من القول أنه من المؤسف والمؤلم أن أضطر لطرح مثل تلك الأسئلة في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين ، وأعتقد أن معظم أبناء جيلي الذين ولدوا في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم ، والذين امتد بهم العمر حتى هذه الأيام ، يشاركونني الأسف والألم معاً ، فجيل الآباء والأجداد على السجية كان قد حسم تلك المسألة منذ بداية القرن العشرين متجاوزاً كل أشكاليات السفسطة والفتن لافتعال تناقض بين أديان وطوائف ومذاهب وأعراق ومناطقيات وإيديولوجيات الشعب في سورية ، هكذا ولد جيلنا وهو يرنوا إلى ما بعد حدود دولة “سايكس بيكو” البعض يناضل لفتحها على “إقليم سورية الطبيعية” على الأقل حيث الهوية السورية ، والبعض الآخر يناضل ليفتحها على الوطن العربي بين المحيط والخليج حيث الهوية العربية والأمة مكتملة التكوين التي تم الاعتداء عليها وتقطيع أوصالها ، والبعض الثالث يناضل ليفتحها على المجتمع البشري برمته سواء لتوحيد عمال العالم ، أو لتوحيد ليبرال العالم ، أو لتوحيد ديانات العالم … المهم في الأمر أن المواطنين في سورية كانوا قد قاوموا محاولات العدوان على هوية المواطنة المتساوية في دولة سورية على الأقل فكانت الرؤى تمتد إلى مابعد حدود “الدولة”� وليس إلى العبث بمواطنية مواطنيها في الداخل … فما هي تلك الهوية الوطنية التي كانت ومازالت حاضنة لخصوصيات الشعب في سورية ؟ .
( 37 )
�������������� لقد بلغ التحدي للهوية في سورية أشده مع بداية القرن العشرين المنصرم مع وصول جمعية الاتحاد والترقي التركية إلى الحكم في الأستانة حيث تم التخلي عن قناع الخلافة والأخوة الإسلامية ، وتم الإعلان جهاراً نهاراً عن سياسة التتريك ، وقد أدرك الشعب في سورية بعفوية وعلى السجية أن الهوية الوحيدة التي يمكن أن تكون الحامل لمشروع الحرية والسيادة الوطنية هي الهوية العربية فانضوى جميع المناضلين من مختلف الأرومات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية في جمعيات ومنتديات عربية ترفع الراية العربية في مواجهة التتريك ، ومن ثم في حلقات مقاومة وتمرد مسلح ، ولعل استعراض أسماء شهداء السادس من أيار عام 1916في كل من ساحة المرجة بدمشق وساحة البرج في بيروت تضعنا أمام مشهد قل نظيره في التاريخ الإنساني حيث على أعواد المشانق رجال دين مسلمين ومسيحيين جنباً إلى جنب … ففشلت محاولات العبث بالهوية العربية للشعب في سورية التي� حاولها العثمانيون على امتداد قرون سواء بين المسلمين والمسيحيين أو بين المذاهب الإسلامية عن طريق تقريب بعضها واضطهاد بعضها الآخر ، أو بين الطوائف المسيحية شرقية وغربية أو بين الإثنيات والأعراق عربية أو كردية أو حتى تركمانية وشركسية وأرمنية كانت قد لجأت حديثاً إلى سورية هرباً من الاضطهاد في موطنها ، فوجدت في سورية موطناً ووطناً تعتز بحمل هويته الوطنية .���
( 38 )
������������� لكن ما كادت راية الاستقلال العربية ترفع في دمشق حتى تم نشر خريطة “سايكس – بيكو” ، حيث هذا الجزء من سورية الطبيعية كان من نصيب ما سمي في ذلك الوقت “الانتداب الفرنسي” ، وتم ترجمة ذلك بزحف الجيوش الفرنسية لاحتلال سورية وحكمها مباشرة عن طريق المفوض السامي الفرنسي ، ومرة أخرى انطلقت المقاومة الوطنية لمواجهة الاستعمار الفرنسي ، فالشعب في سورية لم يتخلص من الاحتلال التركي للرضوخ للاستعمار الفرنسي ، ومرة أخرى أيضاً كانت الهوية الوطنية العربية هي الحامل لمشروع المقاومة والتحرر والحرية والسيادة ، ومرة أخرى أيضاً وأيضاً أدرك المستعمرون الفرنسيون� ومنذ اللحظة الأولى أنه لا سبيل أمامهم لبسط سلطتهم إلا باستنساخ الأساليب التركية ذاتها للعبث بالنسيج الوطني في سورية دينياً وطائفياً ومذهبياً وعرقياً ومناطقياً وافتعال هويات عصبوية تتناقض مع الهوية الوطنية العربية ، فتم الإعلان عن تقسيم ذلك الجزء من سورية الطبيعية الخاضع للاستعمار الفرنسي إلى كونتونات ، وبما أن الاحتلال الفرنسي بدأ حملة احتلال سورية من احتلال الساحل وسلسلة “جبال اللكامّ” المعروفة “بجبال العلويين” فقد بدأ الاستعمار الفرنسي بتنفيذ سياسة “الكنتنة” من تلك الجبال بالإعداد لما أسماه “الدولة العلوية” . رغم أن المواطنين ، سكان الساحل وتلك الجبال ، من أرومات عرقية ودينية وطائفية ومذهبية متنوعة : عرب وتركمان وأكراد وشراكسة وأرمن ، مسيحيون من كل الطوائف شرقية وغربية ، مسلمون من كل المذاهب سنة وشيعة� وإسماعيليون ، وعلويون يتوزعون على عشائر تعود تاريخياً من الناحية العرقية إلى قبيلة تنوخ العربية مع بعض الإضافات ، ويشكلون الغالبية السكانية في تلك المناطق� .��������������
( 39 )
������������� لقد حاول الاستعمار الفرنسي أن يكرر اللعبة اللبنانية في سورية بالعبث بالنسيج الوطني في الساحل السوري ، وأن يبدو وكأنه جاء منقذاً لما يسميه الأقليات من الظلم التاريخي الذي تعرضوا ويتعرضون له ، بحسب رأيه ، وأنه سيقيم لهم دولة مستقلة تقوم على المحاصصة الطائفية على غرار ماكان يرتب في لبنان ، وتيمناً بما يعمل عليه الإنكليز مع الحركة الصهيونية في فلسطين ، وكان من الطبيعي أن يجد الاستعمار الفرنسي من يتعاون معه ومن يدغدغ غرائزه العصبوية بتلك الطروحات الطائفية والعنصرية كما يحدث في كل المجتمعات التي تتعرض للغزو الاستعماري فدائماً يجد الغزاة في تلك المجتمعات من يخون وطنه وأهله ، وإذا كانت الصحف قد طالعتنا هذه الأيام بالذات بما تقول أنها وثيقة تفيد أن بعض العلويين كانوا موافقين على مشروع “الدولة العلوية” فنحن لا ننفي ذلك ولا نؤكده ، ونتركه للتوثيق العلمي التاريخي ، لكن أن تكون الغاية من النشر هي القول أن العلويين إجمالاَ كانوا مع إقامة “الدولة العلوية” فهذا قول يجافي الحقيقة والواقع ، فالأستعمار الفرنسي كان يحاول ذلك ويبسط سيطرته ليس على الساحل ، وحسب بل يتقاسم مع الجيش البريطاني السيطرة على الوطن العربي من محيطه إلى خليجه وهو يبارك مثل تلك الكونتونات ويسعى لتحقيقها ، التاريخ يقول أنهم ، هم ، “العلويون” الوطنيون هم من أفشل تلك الدويلة وقاومها ، وإذا كان البعض منهم قد تعامل مع المستعمرين في ذلك فهذا من طبيعة الأشياء حيث لا توجد على وجه الأرض جماعة بشرية ، لا طائفة ولا قوم من النبلاء والمناضلين والأنقياء والشرفاء وحملة مشاعل الأنسنة والحرية ، فلا بد من وجود الخونة والجواسيس وضعاف النفوس والمتوحشين والمنافقين والعبيد ، لذلك رفضنا ونرفض تصنيف الطوائف والمذاهب والإثنيات بإنها كريمة أوغير كريمة ففي كل جماعة بشرية ما يكفي من هذا الطيف الواسع ، والفرز هنا يتم إنسانياً على مبدأ تقييم الإنسان الفرد ، والبيئة الاجتماعية بتوجهها العام والغالب ، ودعونا نضرب مثلاً معاصراً لتلك الفترة التاريخية : عندما تقدم غورو باتجاه دمشق خرج لمواجهته أبناء البلد بقيادة يوسف العظمة واستشهد العديد منهم على بطاح ميسلون ، وعندما دخل غورو دمشق تقدم بعض الأفراد ليجروا عربة غورو عوضاً عن الدواب التي كانت تقوم بذلك … التاريخ يقول الآن ، وبعد ما يقارب القرن من الزمان أن دمشق قاومت الغزو الفرنسي بشخص يوسف العظمة ورفاقه الأبطال ، بينما لا أحد ولا التاريخ يذكر أسماء أولئك الذين قاموا بدور “الدواب” ، و”الدواب” متواجدين في كل عصر وزمان .
( 40 )
����������� استكمالاً للكشف عن تلك الحقبة التاريخية سنقف في هذه العجالة عند وثائق ثلاث لاشك في صحتها تعبر عن المواجهة المبكرة لمشروع “الكنتنة العلوية” بين عامي 1918 و1920.
�–� الوثيقة الأولى : ترافقت مع المقاومة المسلحة التي قادها الشيخ صالح العلي ، وعبر عنها شعراً وهو في ساحة المعركة ، قال :���
يا فرنسا���� لا تظني��������� أننا�������� نقبل� الخسف ،� فما� نحن� عبيد
سوف�� تلقين�� من� العرب� وقد�������� أجمعوا�� رأيهم��� يوماً����� شديد
ويضيف :
كفاكم� خداعاً� وافتراء��� وخسة�������� وكيداً�� وعدواناً���� لأبناء�� يعرب
تودون� باسم� الدين� تفريق� أمة��������� تسامى� بنوها� فوق� دين� ومذهب
تعيش� بدين� الحب��� قولاً� ونية�������� وتدفع�� عن أوطانها��� كل� أجنبي
وما شرع عيسى غير شرع محمد������ وما الوطن الغالي سوى الأم والأب
نحن نورد هذه الوثائق في سياق تاكيد الهوية الوطنية للمقاومة .
-�� الوثيقة الثانية : في الفترة الزمنية ذاتها ، مطلع العشرينات من القرن المنصرم امتدت يد السوء إلى إذكاء روح البغضاء بين المواطنين العرب المسلمين من “العلويين والسنة” في منطقة بانياس الساحلية ، فحدثت الفتنة ، وبغض النظر عن الأسباب ، والمسبّب ، انتهت إلى أن البعض من “المسلمين العلويين” أحرقوا ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم من مال وحيوان في بانياس ، فأصدر الشيخ سليمان أحمد قاضي قضاة جبل العلويين فتواه الشهيرة التي ننقلها حرفياً :
“إلى سائر إخواننا من أهل الولاية”
( إن هذه الفوضى خارجة عن الدين والإنسانية معاً ، فالواجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوالي العترة الطاهرة أن يبذل وسعه لإرجاع هذه المسلوبات إلى أربابها . ومن منعته الجهالة والعصبية من الانقياد إلى أمر الله وطاعة المؤمنين ، فليُهجر ولا يُعاشر ولا يجوز أن تُقبل منه صدقة ولا زكاة ولا يُصلى عليه إذا مات حتى يفيء إلى أمر الله ، وبما أنه لا قوة لنا على تنفيذ أحكام الشرع الشريف في هذه المسألة ، فنحن نفعل ما يجب علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا نقع تحت طائلة الوعيد . فإن المنكر إذا فشا عمّت عقوبته الحُلماء والسفهاء معاً ، فالعقوبة تقع على الحلماء لترك النهي ، وعلى السفهاء لعدم التناسي ، وإذا وُجد من المشائخ من يتساهل مع أهل الجهالة يُعامل معاملتهم . اللهم إنا نبرأ إليك من هذه الأعمال الجائرة وممن يُقرّها . ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . )
-������ خادم الشريعة الإسلامية المقدسة
سليمان أحمد
���������������� لم يكن بيد الشيخ الجليل أية سلطة زمنية رادعة ، فقط كانت سلطته على الوجدان والضمائر ، فبعد أن ندد بالفعلة فوجئ الجهلة بهذا الموقف الحازم ، فتهافتوا على المراكز المخصصة يعيدون كل ما لديهم من أسلاب ونهائب وأمُنّ المسلوبون والمنهوبون ، واستدعوا لهذه المراكز ليتعّرف كل منهم على دوابه ومسلوباته ، ويأخذها آمناً مطمئناً .
���������������� إننا نورد هذه الواقعة لنبّين لكل من يعنيهم الأمر أن الشعب في ظروف المحن يحتاج إلى صوت الحكمة والعقل ، لمواجهة الغرائز والتوحش والجهالة ، لم يتطرق الشيخ لمن تسبّب بالفتنة لأنه يرفض تبرير الجهالة بالجهالة .
�– الوثيقة الثالثة : كان الشيخ سليمان أحمد قاضي قضاة جبل العلويين قد اعتمد الفقه الإسلامي مصدراُ لأحكام محاكم الأحوال الشخصية في جبال العلويين فساء ذلك الحاكم الفرنسي في اللاذقية آنذاك الجنرال “بيّوت” الذي كان يسعى لعزل “جبل العلويين” ، وذلك إمعاناً في تقسيم ما تبقى من سورية إلى دول ، فقابل الشيخ يُزيّن له التراجع عن اعتماد الفقه الإسلامي في المحاكم والأخذ بنظام العرف والعادة ، ويغمز من ناحية الفتاوي التي صدرت بتكفير العلويين في محاولة لإشعال نار الفتن بين “العلويين والسنة” … عندها تبيّن الشيخ القاضي هدف الجنرال ، فانتفض مُغضباً ناسياً رهبة السلطان وجبروته يخاطب الجنرال قائلاً : ياجنرال “إن الغرض يُعمي ويُصم” ، (سيادة الجنرال :سواء عبدنا الحجر أو عبدنا المدر ، فليقيننا أن هذا هو ما جاء به محمد بن عبد الله ، فلشاكّ أن يشك في صحة فهمنا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا شك في انتسابنا واتباعنا له . )
��������������� لم يكن الوقت مناسباً للحوار ولكن كان لإعلان موقف وطني حاسم ، وذلك ماكان ، وتلك كانت سورية منذ قرن من الزمان� . فهل نبني المستقبل على القيم النبيلة التي رسخها العظام من مواطنيها أم نترك الأمر للجهالة والتوحش هذا هو السؤال …؟ .
“وللحديث صلة”
�( 36 )
������������ لعل السؤال الأكثر أهمية في هذه الظروف الموضوعية الشديدة التعقيد التي تمر فيها دولة الجمهورية العربية السورية هو : ما هي الهوية الوطنية للشعب في سورية …؟ ، وهل هناك إشكالية حقيقية في تحديد تلك الهوية …؟ .
������������ بداية لا بد من القول أنه من المؤسف والمؤلم أن أضطر لطرح مثل تلك الأسئلة في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين ، وأعتقد أن معظم أبناء جيلي الذين ولدوا في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم ، والذين امتد بهم العمر حتى هذه الأيام ، يشاركونني الأسف والألم معاً ، فجيل الآباء والأجداد على السجية كان قد حسم تلك المسألة منذ بداية القرن العشرين متجاوزاً كل أشكاليات السفسطة والفتن لافتعال تناقض بين أديان وطوائف ومذاهب وأعراق ومناطقيات وإيديولوجيات الشعب في سورية ، هكذا ولد جيلنا وهو يرنوا إلى ما بعد حدود دولة “سايكس بيكو” البعض يناضل لفتحها على “إقليم سورية الطبيعية” على الأقل حيث الهوية السورية ، والبعض الآخر يناضل ليفتحها على الوطن العربي بين المحيط والخليج حيث الهوية العربية والأمة مكتملة التكوين التي تم الاعتداء عليها وتقطيع أوصالها ، والبعض الثالث يناضل ليفتحها على المجتمع البشري برمته سواء لتوحيد عمال العالم ، أو لتوحيد ليبرال العالم ، أو لتوحيد ديانات العالم … المهم في الأمر أن المواطنين في سورية كانوا قد قاوموا محاولات العدوان على هوية المواطنة المتساوية في دولة سورية على الأقل فكانت الرؤى تمتد إلى مابعد حدود “الدولة”� وليس إلى العبث بمواطنية مواطنيها في الداخل … فما هي تلك الهوية الوطنية التي كانت ومازالت حاضنة لخصوصيات الشعب في سورية ؟ .
( 37 )
�������������� لقد بلغ التحدي للهوية في سورية أشده مع بداية القرن العشرين المنصرم مع وصول جمعية الاتحاد والترقي التركية إلى الحكم في الأستانة حيث تم التخلي عن قناع الخلافة والأخوة الإسلامية ، وتم الإعلان جهاراً نهاراً عن سياسة التتريك ، وقد أدرك الشعب في سورية بعفوية وعلى السجية أن الهوية الوحيدة التي يمكن أن تكون الحامل لمشروع الحرية والسيادة الوطنية هي الهوية العربية فانضوى جميع المناضلين من مختلف الأرومات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية في جمعيات ومنتديات عربية ترفع الراية العربية في مواجهة التتريك ، ومن ثم في حلقات مقاومة وتمرد مسلح ، ولعل استعراض أسماء شهداء السادس من أيار عام 1916في كل من ساحة المرجة بدمشق وساحة البرج في بيروت تضعنا أمام مشهد قل نظيره في التاريخ الإنساني حيث على أعواد المشانق رجال دين مسلمين ومسيحيين جنباً إلى جنب … ففشلت محاولات العبث بالهوية العربية للشعب في سورية التي� حاولها العثمانيون على امتداد قرون سواء بين المسلمين والمسيحيين أو بين المذاهب الإسلامية عن طريق تقريب بعضها واضطهاد بعضها الآخر ، أو بين الطوائف المسيحية شرقية وغربية أو بين الإثنيات والأعراق عربية أو كردية أو حتى تركمانية وشركسية وأرمنية كانت قد لجأت حديثاً إلى سورية هرباً من الاضطهاد في موطنها ، فوجدت في سورية موطناً ووطناً تعتز بحمل هويته الوطنية .���
( 38 )
������������� لكن ما كادت راية الاستقلال العربية ترفع في دمشق حتى تم نشر خريطة “سايكس – بيكو” ، حيث هذا الجزء من سورية الطبيعية كان من نصيب ما سمي في ذلك الوقت “الانتداب الفرنسي” ، وتم ترجمة ذلك بزحف الجيوش الفرنسية لاحتلال سورية وحكمها مباشرة عن طريق المفوض السامي الفرنسي ، ومرة أخرى انطلقت المقاومة الوطنية لمواجهة الاستعمار الفرنسي ، فالشعب في سورية لم يتخلص من الاحتلال التركي للرضوخ للاستعمار الفرنسي ، ومرة أخرى أيضاً كانت الهوية الوطنية العربية هي الحامل لمشروع المقاومة والتحرر والحرية والسيادة ، ومرة أخرى أيضاً وأيضاً أدرك المستعمرون الفرنسيون� ومنذ اللحظة الأولى أنه لا سبيل أمامهم لبسط سلطتهم إلا باستنساخ الأساليب التركية ذاتها للعبث بالنسيج الوطني في سورية دينياً وطائفياً ومذهبياً وعرقياً ومناطقياً وافتعال هويات عصبوية تتناقض مع الهوية الوطنية العربية ، فتم الإعلان عن تقسيم ذلك الجزء من سورية الطبيعية الخاضع للاستعمار الفرنسي إلى كونتونات ، وبما أن الاحتلال الفرنسي بدأ حملة احتلال سورية من احتلال الساحل وسلسلة “جبال اللكامّ” المعروفة “بجبال العلويين” فقد بدأ الاستعمار الفرنسي بتنفيذ سياسة “الكنتنة” من تلك الجبال بالإعداد لما أسماه “الدولة العلوية” . رغم أن المواطنين ، سكان الساحل وتلك الجبال ، من أرومات عرقية ودينية وطائفية ومذهبية متنوعة : عرب وتركمان وأكراد وشراكسة وأرمن ، مسيحيون من كل الطوائف شرقية وغربية ، مسلمون من كل المذاهب سنة وشيعة� وإسماعيليون ، وعلويون يتوزعون على عشائر تعود تاريخياً من الناحية العرقية إلى قبيلة تنوخ العربية مع بعض الإضافات ، ويشكلون الغالبية السكانية في تلك المناطق� .��������������
( 39 )
������������� لقد حاول الاستعمار الفرنسي أن يكرر اللعبة اللبنانية في سورية بالعبث بالنسيج الوطني في الساحل السوري ، وأن يبدو وكأنه جاء منقذاً لما يسميه الأقليات من الظلم التاريخي الذي تعرضوا ويتعرضون له ، بحسب رأيه ، وأنه سيقيم لهم دولة مستقلة تقوم على المحاصصة الطائفية على غرار ماكان يرتب في لبنان ، وتيمناً بما يعمل عليه الإنكليز مع الحركة الصهيونية في فلسطين ، وكان من الطبيعي أن يجد الاستعمار الفرنسي من يتعاون معه ومن يدغدغ غرائزه العصبوية بتلك الطروحات الطائفية والعنصرية كما يحدث في كل المجتمعات التي تتعرض للغزو الاستعماري فدائماً يجد الغزاة في تلك المجتمعات من يخون وطنه وأهله ، وإذا كانت الصحف قد طالعتنا هذه الأيام بالذات بما تقول أنها وثيقة تفيد أن بعض العلويين كانوا موافقين على مشروع “الدولة العلوية” فنحن لا ننفي ذلك ولا نؤكده ، ونتركه للتوثيق العلمي التاريخي ، لكن أن تكون الغاية من النشر هي القول أن العلويين إجمالاَ كانوا مع إقامة “الدولة العلوية” فهذا قول يجافي الحقيقة والواقع ، فالأستعمار الفرنسي كان يحاول ذلك ويبسط سيطرته ليس على الساحل ، وحسب بل يتقاسم مع الجيش البريطاني السيطرة على الوطن العربي من محيطه إلى خليجه وهو يبارك مثل تلك الكونتونات ويسعى لتحقيقها ، التاريخ يقول أنهم ، هم ، “العلويون” الوطنيون هم من أفشل تلك الدويلة وقاومها ، وإذا كان البعض منهم قد تعامل مع المستعمرين في ذلك فهذا من طبيعة الأشياء حيث لا توجد على وجه الأرض جماعة بشرية ، لا طائفة ولا قوم من النبلاء والمناضلين والأنقياء والشرفاء وحملة مشاعل الأنسنة والحرية ، فلا بد من وجود الخونة والجواسيس وضعاف النفوس والمتوحشين والمنافقين والعبيد ، لذلك رفضنا ونرفض تصنيف الطوائف والمذاهب والإثنيات بإنها كريمة أوغير كريمة ففي كل جماعة بشرية ما يكفي من هذا الطيف الواسع ، والفرز هنا يتم إنسانياً على مبدأ تقييم الإنسان الفرد ، والبيئة الاجتماعية بتوجهها العام والغالب ، ودعونا نضرب مثلاً معاصراً لتلك الفترة التاريخية : عندما تقدم غورو باتجاه دمشق خرج لمواجهته أبناء البلد بقيادة يوسف العظمة واستشهد العديد منهم على بطاح ميسلون ، وعندما دخل غورو دمشق تقدم بعض الأفراد ليجروا عربة غورو عوضاً عن الدواب التي كانت تقوم بذلك … التاريخ يقول الآن ، وبعد ما يقارب القرن من الزمان أن دمشق قاومت الغزو الفرنسي بشخص يوسف العظمة ورفاقه الأبطال ، بينما لا أحد ولا التاريخ يذكر أسماء أولئك الذين قاموا بدور “الدواب” ، و”الدواب” متواجدين في كل عصر وزمان .
( 40 )
����������� استكمالاً للكشف عن تلك الحقبة التاريخية سنقف في هذه العجالة عند وثائق ثلاث لاشك في صحتها تعبر عن المواجهة المبكرة لمشروع “الكنتنة العلوية” بين عامي 1918 و1920.
�–� الوثيقة الأولى : ترافقت مع المقاومة المسلحة التي قادها الشيخ صالح العلي ، وعبر عنها شعراً وهو في ساحة المعركة ، قال :���
يا فرنسا���� لا تظني��������� أننا�������� نقبل� الخسف ،� فما� نحن� عبيد
سوف�� تلقين�� من� العرب� وقد�������� أجمعوا�� رأيهم��� يوماً����� شديد
ويضيف :
كفاكم� خداعاً� وافتراء��� وخسة�������� وكيداً�� وعدواناً���� لأبناء�� يعرب
تودون� باسم� الدين� تفريق� أمة��������� تسامى� بنوها� فوق� دين� ومذهب
تعيش� بدين� الحب��� قولاً� ونية�������� وتدفع�� عن أوطانها��� كل� أجنبي
وما شرع عيسى غير شرع محمد������ وما الوطن الغالي سوى الأم والأب
نحن نورد هذه الوثائق في سياق تاكيد الهوية الوطنية للمقاومة .
-�� الوثيقة الثانية : في الفترة الزمنية ذاتها ، مطلع العشرينات من القرن المنصرم امتدت يد السوء إلى إذكاء روح البغضاء بين المواطنين العرب المسلمين من “العلويين والسنة” في منطقة بانياس الساحلية ، فحدثت الفتنة ، وبغض النظر عن الأسباب ، والمسبّب ، انتهت إلى أن البعض من “المسلمين العلويين” أحرقوا ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم من مال وحيوان في بانياس ، فأصدر الشيخ سليمان أحمد قاضي قضاة جبل العلويين فتواه الشهيرة التي ننقلها حرفياً :
“إلى سائر إخواننا من أهل الولاية”
( إن هذه الفوضى خارجة عن الدين والإنسانية معاً ، فالواجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوالي العترة الطاهرة أن يبذل وسعه لإرجاع هذه المسلوبات إلى أربابها . ومن منعته الجهالة والعصبية من الانقياد إلى أمر الله وطاعة المؤمنين ، فليُهجر ولا يُعاشر ولا يجوز أن تُقبل منه صدقة ولا زكاة ولا يُصلى عليه إذا مات حتى يفيء إلى أمر الله ، وبما أنه لا قوة لنا على تنفيذ أحكام الشرع الشريف في هذه المسألة ، فنحن نفعل ما يجب علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا نقع تحت طائلة الوعيد . فإن المنكر إذا فشا عمّت عقوبته الحُلماء والسفهاء معاً ، فالعقوبة تقع على الحلماء لترك النهي ، وعلى السفهاء لعدم التناسي ، وإذا وُجد من المشائخ من يتساهل مع أهل الجهالة يُعامل معاملتهم . اللهم إنا نبرأ إليك من هذه الأعمال الجائرة وممن يُقرّها . ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . )
-������ خادم الشريعة الإسلامية المقدسة
سليمان أحمد
���������������� لم يكن بيد الشيخ الجليل أية سلطة زمنية رادعة ، فقط كانت سلطته على الوجدان والضمائر ، فبعد أن ندد بالفعلة فوجئ الجهلة بهذا الموقف الحازم ، فتهافتوا على المراكز المخصصة يعيدون كل ما لديهم من أسلاب ونهائب وأمُنّ المسلوبون والمنهوبون ، واستدعوا لهذه المراكز ليتعّرف كل منهم على دوابه ومسلوباته ، ويأخذها آمناً مطمئناً .
���������������� إننا نورد هذه الواقعة لنبّين لكل من يعنيهم الأمر أن الشعب في ظروف المحن يحتاج إلى صوت الحكمة والعقل ، لمواجهة الغرائز والتوحش والجهالة ، لم يتطرق الشيخ لمن تسبّب بالفتنة لأنه يرفض تبرير الجهالة بالجهالة .
�– الوثيقة الثالثة : كان الشيخ سليمان أحمد قاضي قضاة جبل العلويين قد اعتمد الفقه الإسلامي مصدراُ لأحكام محاكم الأحوال الشخصية في جبال العلويين فساء ذلك الحاكم الفرنسي في اللاذقية آنذاك الجنرال “بيّوت” الذي كان يسعى لعزل “جبل العلويين” ، وذلك إمعاناً في تقسيم ما تبقى من سورية إلى دول ، فقابل الشيخ يُزيّن له التراجع عن اعتماد الفقه الإسلامي في المحاكم والأخذ بنظام العرف والعادة ، ويغمز من ناحية الفتاوي التي صدرت بتكفير العلويين في محاولة لإشعال نار الفتن بين “العلويين والسنة” … عندها تبيّن الشيخ القاضي هدف الجنرال ، فانتفض مُغضباً ناسياً رهبة السلطان وجبروته يخاطب الجنرال قائلاً : ياجنرال “إن الغرض يُعمي ويُصم” ، (سيادة الجنرال :سواء عبدنا الحجر أو عبدنا المدر ، فليقيننا أن هذا هو ما جاء به محمد بن عبد الله ، فلشاكّ أن يشك في صحة فهمنا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا شك في انتسابنا واتباعنا له . )
��������������� لم يكن الوقت مناسباً للحوار ولكن كان لإعلان موقف وطني حاسم ، وذلك ماكان ، وتلك كانت سورية منذ قرن من الزمان� . فهل نبني المستقبل على القيم النبيلة التي رسخها العظام من مواطنيها أم نترك الأمر للجهالة والتوحش هذا هو السؤال …؟ .
“وللحديث صلة”