سوريا اليوم
مراسل صقور الأبداع من سوريا
د. محمد كمال اللبواني : كلنا شركاء
عندما نشأت حركة الاخوان في الربع الثاني من القرن العشرين كانت امتدادا لحركة التنوير الاسلامي التي بدأت مع تنامي التحديث في العالم العربي الاسلامي ومع اقتحام قيم وفكر ونظم الحضارة الغربية لمجتمعات الشرق التي بقيت طويلا تعيد انتاج القرون الوسطى متجاهلة الحضارة الحديثة .
خلعت الجماعة الجبة وارتدت البدلة والكرافة� والطربوش وقصت الذقن والشوارب ، �وتبنت شكل الدولة الحديث بدل الخلافة والسلطنة ، وغيرت في الخطاب الديني التقديسي التعبدي العاطفي التقليدي ،� نحو خطاب ديني عقلي (علمي ) ، وبدأت تطرح نفسها كقوة سياسية تريد قيادة التغيير والتحديث باسم الدين والشريعة، كبديل عن شرعية القوة التي مارسها السلاطين .
وبعد أن حاولت دخول اللعبة الديمقراطية الوليدة ، اصطدمت بسلطات حديثة ثورية �جاءت بالانقلاب العسكري ، واستمدت شرعيتها �من رغبة التحديث السريع ، وسرعان ما تحول الطرفان للصراع العنيف في غياب النظم الديمقراطية ، و بسبب تناقض الشرعيات المطلق بينهما . وتحولت الحركة الاخوانية تحت ضغط القمع والملاحقة الأمنية ، للعمل السري والعسكري ، ثم تطور فكرها الذي تشظى بين نزعات عديدة �تعكس كل منها ظروفا متباينة ومتناقضة أحيانا .
في البداية ظنت الجماعة أن تحديث الدين يتم باستخدام العقل العلمي في قراءة النص ، والتراث الديني بشكل عام ، فاستخدم خريجو الكليات العلمية أركيولوجيا� ونظم عقل علمية فيزيائية رياضية حديثة في التعامل مع الدين ، فلم يعد النص أدبيا مجازيا فيه التأويل والقياس والمجاز والتشبيه والقصة ، يقرأ في كليته وروحه وله شكل ومضمون ، بل صارت كل جملة فيه ، هي قانون مستقل صحيح بجزئه وشكله ، منقطع عن كله وغيره ،فأصبح النص والدين منظومة قوانين وسلوكيات حرفية ، وأصبح التدين هو الالتزام الحرفي بها كلها ، وعلى نفس الدرجة ، واندمجت الشريعة بالدين وتمدد القانون ليشمل كل سلوك البشر ، عندما صار الدين هو مصدر القانون وغايته ، أي أضافوا لدور الدولة الحديثة الجبارة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والالزام البوليسي ، كما تطبق كل القوانين عادة ، وضيعوا الفارق بين دور القانون -ودور الدولة – ودور الدين ، ودمجوا الديني �- بالسياسي – بالقانوني ،ككل شمولي واحد ، وصاروا يرون في منهجهم منهج الله ودينه ، وفي من يعارضوهم الكفر و الزندقة والمعصية والحرابة .�
وهكذا تطور عندهم فكر تكفيري واضح تماما في أهم كتب منظرهم سيد قطب ( عندما قال مقدمة كتابه معالم في الطريق : أن ما نعيشه هو جاهلية أشد وأقسى من جاهلية صدر الإسلام ، �داعيا لهجر المجتمع الآثم كما هاجر الرسول ) مشرعا مبدأ التكفير والهجرة ،ثم الحرابة لأن الهجرة مستحيلة بعيدا عن أجهزة الأمن التي لم تتوانى عن ملاحقتهم واضطهادهم …� هذا المنهج الفكري السياسي الديني هو ما سارت به منظمات جهادية دينية أصولية أخرى رأت أن الأصل يكمن في الماضي ، وليس في المتن ، أي تطورت إلى أصولية سلفية جديدة عادت عن فكرة التحديث الذي ينتهي للكفر ، حاملة معها العقل العلمي الحدي الحرابي العنيف ، منتجة نوعا جديدا من السلفية الجهادية ، ما كانت لتنتج تلقائيا عن السلفية التقليدية التي تعايشت بسلام مع أنظمة الحكم السلطانية ، فباستخدام العقل العلمي �تولد نمط جديد من المنظمات الإسلامية السرية التي تنطلق من واجب ( الجهاد ) بمفهوم حرابة السلطة ، بعد تكفير المجتمع .
وهذا منطقي تماما بحسب نظامهم العقلي وطريقة فهمهم للدين وقراءتهم للنص� . فلديهم �منطق متماسك ومغلق مبني على حتميات ويقينيات مطلقة ..�� والمشكلة أنهم يرفضون عقل آخر ومنطق آخر ويكفرونه من بدئه ويحتكرون حق قراءة النص ،وحق حكم الناس ، ويعتبرون أنفسهم الفئة الناجية المكلفة بإحقاق الحق وإقامة حكم الله وحاكميته ، باليد والقوة .
وإذا قلنا لهم أن حاكمية الله لكل الوجود قائمة ومطلقة ولا ينازعه به أحد ولا تنتظرهم ، وأن المقصود بتحكيم الله هو في ارادة النفس (كساحة حرية وحيدة ) . وأنه لا يجوز للسلطة القانونية القهرية أن تتجاوز تفويضها بحفظ السلم الأهلي نحو أي واجب قمعي آخر ، و أنه يجب أن يبقى كل ما لا يهدد السلم الأهلي ضمن ساحة الحرية والاباحة والثواب والجزاء الديني الأخروي �. قالوا انتم تغيرون شريعة الله ، بعد أن ضيعوا الفرق بين الدين الذي هو نظام للأنفس والضمائر ، وبين الدولة التي هي نظام للمجتمع يحميه من العودة للوحشية ، �وأنكروا أن واجب النفس هزيمة الشيطان في نوازعها ، وواجب الدولة حماية السلم ،وليس الغاء الشر والخطيئة التي هي باقية ما بقيت الدنيا كدار امتحان وحرية ونقص .
في كل الأحوال هذا مثال واحد بسيط على تنازع أنماط مختلفة من العقول في فهم الدين ودوره ، وهو ما يرفضه أصحاب الفكر الديني الشمولي الاستبدادي ، الذين يحتكرون بأنفسهم وزعاماتهم حق تمثيل الدين والحق والحقيقة والله معا ، فلا يصح الدين إلا بهم ، ولا يصلح الحكم إلا بسيادتهم . ثم يرمون �كل من يخالفهم بنار الكفر والزندقة والابتداع .� وهذا المنطق سيحكم سلوكهم أينما كانوا وفي كل وقت .
الكثير من كوادر الحركة الاخوانية استقالوا منها منذ عقود ، أو ذهبوا لحركات أكثر انسجاما (سلفية جهادية ) ومنهم من تحول كليا واكتشف الخلل المنهجي العقلي الذي بنيت عليه ، ومنهم من قضى في مواجهات غير متكافئة مع نظم القمع ، في حين أن قيادات� هذه الحركة فرت للخارج وتعايشت مع الأنظمة الغربية والعربية ، وصارت حليفة لنظامها الأمني والمالي ، و اليوم تم استدعاؤها للقيام بدورها في احتواء زخم الربيع العربي وكبح عنفوانه ، ومنع انتشار فكرة الحرية وتداول السلطة ، والشفافية والحكم المدني الرشيد المسئول ، ضمن خطة احتواء الثورات التي تمر عبر تحويلها� لكوارث اجتماعية وامنية واقتصادية ، تمنع بهولها وفظاعتها أي تفكير بنقلها إلى أماكن أخرى ( سوريا و مصر� نموذجا ). ثم القيام بربط اقتصادات هذه البلدان الفقيرة المدمرة بتبعية اقتصادية ، بل عبودية مالية دائمة تضمن بقاء الهيمنة والتبعية والعجز .
نعم عندما أصبحت (الديمقراطية ) حقيقة بديهية لصلاح أنظمة الحكم ، ظهر التناقض واضحا بين الجماعات الاسلامية السياسية المختلفة وبين هذه الديمقراطية ( الكفر ) �، لأنهم يفوضون أنفسهم تمثيل الدين وشرع الله ، حتى لو دخلوا الانتخابات ، فهم سيدخلونها باسم الإسلام متميزين عن غيرهم من غير الاسلاميين ( المتنكرين للدين من ليبراليين وعلمانيين وقوميين وديمقراطيين ومدنيين ) …� وصولا للدساتير التي يكتبونها بحيث لا تتناقض مع الدين كمصدر للتشريع والدستور �. أي أنهم يجددون نوعا جديدا من الاستبداد ، سرعان ما سينتهي بفساد وتخلف ( طالما أن الاستبداد والفساد صنوان كما قال الكواكبي ) ، و سرعان ما يتم �الصدام مع الناس الذين لا يستطيعون العيش من دون حرية ، وكرامة ، ولا يرون تناقضا بين نمط الحياة الحديث وبين ايمانهم العفوي الفطري وضمائرهم . فهذا التناقض بين الدين والعصر .. لا يوجد إلا في ثقافة اسلامية طارئة مصنعة مكتوبة نمطية حداثوية علمية شمولية دوغمائية ناجمة عن مزيج عقلي مشوه غريب عجيب ماضوي – حداثوي ، علمي – أسطوري ، معقد وغير واضح وغير موحد� . يعمم الجزء ، ويعتبر كل جزء (كلٌّ ) بذاته ، ويعتمد مبدأ� واحدا من مبادئ العقل وهو التناقض والضدية ، ويقارب النص مقاربة علمية وليس أدبية ، ويخلط بين سلطة الله وسلطة الدولة وسلطة النفس ، في النهاية هو نوع من الايديولوجيا السياسية الاستبدادية ، نشأت وترعرعت في زمن الشموليات القومية والشيوعية ، وتنافست معها ولا يحق لها أن تدعي مناقضتها لصالح الديمقراطيات .
فحركة الاخوان لم تعد حركة فكرية دينية ، بل أصبحت حركة سياسية بامتياز ، ولم تعد تهدف لتطوير وتحديث فهم الدين ، بل للوصول للسلطة واحتكارها باستخدام الدين . ولا يمكن اعتبارها بديلا عن الشمولية والاستبداد ،بل هي تجديد له بصيغة أخرى ، وهي ليست نقيضا للحركات العنيفة ( الجهادية السلفية )بل منتج عقلها ، و مشرعنها ، ومصدر فكرها …
وكل ما جرى ويجري من دور تلعبه الجماعة في سياق ثورات الربيع العربي يعكس هذه الحالة ويبرهنها ، من محاولة احتكار التمثيل ، واقامة التحالفات الاقليمية والدولية على حساب حرية الشعوب التي يخافها القريب والبعيد ، واستخدام الدعم الخارجي لكسب الولاءات ، واحتكار السلاح ،ثم الهيمنة على السلطة والثروة ، �واعادة انتاج دولة القيود والمحرمات والأمن والتمييز والفساد ، وتفكيك وحدة المجتمع التي لا تقوم إلا على أساس مدني سياسي . �فالتطبيقات العملية لسياسات الجماعة المختلفة باختلاف الظروف، هي أشكال متنوعة لمنهج وأيديولوجيا إخوانية واحدة ، لم تكن هي من أطلقت الثورات ولا يمكنها أن تمثلها أو تعبر عنها ، بل فقط من يحاول التسلق ثم الهيمنة عليها� وحرفها عن أهدافها في الحرية والديمقراطية واحترام الآخر والشراكة معه ، والكرامة والقيم والايمان والعفة والزهد والحداثة والحضارة .
والمطلوب منا اليوم لحماية الثورات والربيع والمستقبل العربي ، هو فتح حوار فكري واضح وصريح يفكك منظومتهم �العقلية الأيديولوجية الدوغمائية ، ونظامهم السياسي الشمولي ، ويعيد للمسلمين حقهم في قراءة الدين وفهمه وتطبيقه عبر مناهج عقلية مختلفة ، تتناسب مع الديمقراطية والعصر وامينة لمنهج الدين الحق ، الذي هو فطرة وهدى ورحمة . وتسمح بإعادة انتاج الدولة المدنية المتميزة عن الدولة الدينية �كجامع سياسي وحيد لمجتمعات متعددة متنوعة ميالة للوحدة والاندماج الاقليمي والعالمي . وقبل كل ذلك وبعده كبح جماح التبعية والهيمنة والنفوذ الأجنبي والحفاظ على السيادة كجزء لا يتجزأ من الحرية ..� والطريق هو الاحتكام دوما للشعب والمناضلين المخلصين ، وكف يد المتسلقين الوكلاء وفهمكم كفاية .
عندما نشأت حركة الاخوان في الربع الثاني من القرن العشرين كانت امتدادا لحركة التنوير الاسلامي التي بدأت مع تنامي التحديث في العالم العربي الاسلامي ومع اقتحام قيم وفكر ونظم الحضارة الغربية لمجتمعات الشرق التي بقيت طويلا تعيد انتاج القرون الوسطى متجاهلة الحضارة الحديثة .
خلعت الجماعة الجبة وارتدت البدلة والكرافة� والطربوش وقصت الذقن والشوارب ، �وتبنت شكل الدولة الحديث بدل الخلافة والسلطنة ، وغيرت في الخطاب الديني التقديسي التعبدي العاطفي التقليدي ،� نحو خطاب ديني عقلي (علمي ) ، وبدأت تطرح نفسها كقوة سياسية تريد قيادة التغيير والتحديث باسم الدين والشريعة، كبديل عن شرعية القوة التي مارسها السلاطين .
وبعد أن حاولت دخول اللعبة الديمقراطية الوليدة ، اصطدمت بسلطات حديثة ثورية �جاءت بالانقلاب العسكري ، واستمدت شرعيتها �من رغبة التحديث السريع ، وسرعان ما تحول الطرفان للصراع العنيف في غياب النظم الديمقراطية ، و بسبب تناقض الشرعيات المطلق بينهما . وتحولت الحركة الاخوانية تحت ضغط القمع والملاحقة الأمنية ، للعمل السري والعسكري ، ثم تطور فكرها الذي تشظى بين نزعات عديدة �تعكس كل منها ظروفا متباينة ومتناقضة أحيانا .
في البداية ظنت الجماعة أن تحديث الدين يتم باستخدام العقل العلمي في قراءة النص ، والتراث الديني بشكل عام ، فاستخدم خريجو الكليات العلمية أركيولوجيا� ونظم عقل علمية فيزيائية رياضية حديثة في التعامل مع الدين ، فلم يعد النص أدبيا مجازيا فيه التأويل والقياس والمجاز والتشبيه والقصة ، يقرأ في كليته وروحه وله شكل ومضمون ، بل صارت كل جملة فيه ، هي قانون مستقل صحيح بجزئه وشكله ، منقطع عن كله وغيره ،فأصبح النص والدين منظومة قوانين وسلوكيات حرفية ، وأصبح التدين هو الالتزام الحرفي بها كلها ، وعلى نفس الدرجة ، واندمجت الشريعة بالدين وتمدد القانون ليشمل كل سلوك البشر ، عندما صار الدين هو مصدر القانون وغايته ، أي أضافوا لدور الدولة الحديثة الجبارة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والالزام البوليسي ، كما تطبق كل القوانين عادة ، وضيعوا الفارق بين دور القانون -ودور الدولة – ودور الدين ، ودمجوا الديني �- بالسياسي – بالقانوني ،ككل شمولي واحد ، وصاروا يرون في منهجهم منهج الله ودينه ، وفي من يعارضوهم الكفر و الزندقة والمعصية والحرابة .�
وهكذا تطور عندهم فكر تكفيري واضح تماما في أهم كتب منظرهم سيد قطب ( عندما قال مقدمة كتابه معالم في الطريق : أن ما نعيشه هو جاهلية أشد وأقسى من جاهلية صدر الإسلام ، �داعيا لهجر المجتمع الآثم كما هاجر الرسول ) مشرعا مبدأ التكفير والهجرة ،ثم الحرابة لأن الهجرة مستحيلة بعيدا عن أجهزة الأمن التي لم تتوانى عن ملاحقتهم واضطهادهم …� هذا المنهج الفكري السياسي الديني هو ما سارت به منظمات جهادية دينية أصولية أخرى رأت أن الأصل يكمن في الماضي ، وليس في المتن ، أي تطورت إلى أصولية سلفية جديدة عادت عن فكرة التحديث الذي ينتهي للكفر ، حاملة معها العقل العلمي الحدي الحرابي العنيف ، منتجة نوعا جديدا من السلفية الجهادية ، ما كانت لتنتج تلقائيا عن السلفية التقليدية التي تعايشت بسلام مع أنظمة الحكم السلطانية ، فباستخدام العقل العلمي �تولد نمط جديد من المنظمات الإسلامية السرية التي تنطلق من واجب ( الجهاد ) بمفهوم حرابة السلطة ، بعد تكفير المجتمع .
وهذا منطقي تماما بحسب نظامهم العقلي وطريقة فهمهم للدين وقراءتهم للنص� . فلديهم �منطق متماسك ومغلق مبني على حتميات ويقينيات مطلقة ..�� والمشكلة أنهم يرفضون عقل آخر ومنطق آخر ويكفرونه من بدئه ويحتكرون حق قراءة النص ،وحق حكم الناس ، ويعتبرون أنفسهم الفئة الناجية المكلفة بإحقاق الحق وإقامة حكم الله وحاكميته ، باليد والقوة .
وإذا قلنا لهم أن حاكمية الله لكل الوجود قائمة ومطلقة ولا ينازعه به أحد ولا تنتظرهم ، وأن المقصود بتحكيم الله هو في ارادة النفس (كساحة حرية وحيدة ) . وأنه لا يجوز للسلطة القانونية القهرية أن تتجاوز تفويضها بحفظ السلم الأهلي نحو أي واجب قمعي آخر ، و أنه يجب أن يبقى كل ما لا يهدد السلم الأهلي ضمن ساحة الحرية والاباحة والثواب والجزاء الديني الأخروي �. قالوا انتم تغيرون شريعة الله ، بعد أن ضيعوا الفرق بين الدين الذي هو نظام للأنفس والضمائر ، وبين الدولة التي هي نظام للمجتمع يحميه من العودة للوحشية ، �وأنكروا أن واجب النفس هزيمة الشيطان في نوازعها ، وواجب الدولة حماية السلم ،وليس الغاء الشر والخطيئة التي هي باقية ما بقيت الدنيا كدار امتحان وحرية ونقص .
في كل الأحوال هذا مثال واحد بسيط على تنازع أنماط مختلفة من العقول في فهم الدين ودوره ، وهو ما يرفضه أصحاب الفكر الديني الشمولي الاستبدادي ، الذين يحتكرون بأنفسهم وزعاماتهم حق تمثيل الدين والحق والحقيقة والله معا ، فلا يصح الدين إلا بهم ، ولا يصلح الحكم إلا بسيادتهم . ثم يرمون �كل من يخالفهم بنار الكفر والزندقة والابتداع .� وهذا المنطق سيحكم سلوكهم أينما كانوا وفي كل وقت .
الكثير من كوادر الحركة الاخوانية استقالوا منها منذ عقود ، أو ذهبوا لحركات أكثر انسجاما (سلفية جهادية ) ومنهم من تحول كليا واكتشف الخلل المنهجي العقلي الذي بنيت عليه ، ومنهم من قضى في مواجهات غير متكافئة مع نظم القمع ، في حين أن قيادات� هذه الحركة فرت للخارج وتعايشت مع الأنظمة الغربية والعربية ، وصارت حليفة لنظامها الأمني والمالي ، و اليوم تم استدعاؤها للقيام بدورها في احتواء زخم الربيع العربي وكبح عنفوانه ، ومنع انتشار فكرة الحرية وتداول السلطة ، والشفافية والحكم المدني الرشيد المسئول ، ضمن خطة احتواء الثورات التي تمر عبر تحويلها� لكوارث اجتماعية وامنية واقتصادية ، تمنع بهولها وفظاعتها أي تفكير بنقلها إلى أماكن أخرى ( سوريا و مصر� نموذجا ). ثم القيام بربط اقتصادات هذه البلدان الفقيرة المدمرة بتبعية اقتصادية ، بل عبودية مالية دائمة تضمن بقاء الهيمنة والتبعية والعجز .
نعم عندما أصبحت (الديمقراطية ) حقيقة بديهية لصلاح أنظمة الحكم ، ظهر التناقض واضحا بين الجماعات الاسلامية السياسية المختلفة وبين هذه الديمقراطية ( الكفر ) �، لأنهم يفوضون أنفسهم تمثيل الدين وشرع الله ، حتى لو دخلوا الانتخابات ، فهم سيدخلونها باسم الإسلام متميزين عن غيرهم من غير الاسلاميين ( المتنكرين للدين من ليبراليين وعلمانيين وقوميين وديمقراطيين ومدنيين ) …� وصولا للدساتير التي يكتبونها بحيث لا تتناقض مع الدين كمصدر للتشريع والدستور �. أي أنهم يجددون نوعا جديدا من الاستبداد ، سرعان ما سينتهي بفساد وتخلف ( طالما أن الاستبداد والفساد صنوان كما قال الكواكبي ) ، و سرعان ما يتم �الصدام مع الناس الذين لا يستطيعون العيش من دون حرية ، وكرامة ، ولا يرون تناقضا بين نمط الحياة الحديث وبين ايمانهم العفوي الفطري وضمائرهم . فهذا التناقض بين الدين والعصر .. لا يوجد إلا في ثقافة اسلامية طارئة مصنعة مكتوبة نمطية حداثوية علمية شمولية دوغمائية ناجمة عن مزيج عقلي مشوه غريب عجيب ماضوي – حداثوي ، علمي – أسطوري ، معقد وغير واضح وغير موحد� . يعمم الجزء ، ويعتبر كل جزء (كلٌّ ) بذاته ، ويعتمد مبدأ� واحدا من مبادئ العقل وهو التناقض والضدية ، ويقارب النص مقاربة علمية وليس أدبية ، ويخلط بين سلطة الله وسلطة الدولة وسلطة النفس ، في النهاية هو نوع من الايديولوجيا السياسية الاستبدادية ، نشأت وترعرعت في زمن الشموليات القومية والشيوعية ، وتنافست معها ولا يحق لها أن تدعي مناقضتها لصالح الديمقراطيات .
فحركة الاخوان لم تعد حركة فكرية دينية ، بل أصبحت حركة سياسية بامتياز ، ولم تعد تهدف لتطوير وتحديث فهم الدين ، بل للوصول للسلطة واحتكارها باستخدام الدين . ولا يمكن اعتبارها بديلا عن الشمولية والاستبداد ،بل هي تجديد له بصيغة أخرى ، وهي ليست نقيضا للحركات العنيفة ( الجهادية السلفية )بل منتج عقلها ، و مشرعنها ، ومصدر فكرها …
وكل ما جرى ويجري من دور تلعبه الجماعة في سياق ثورات الربيع العربي يعكس هذه الحالة ويبرهنها ، من محاولة احتكار التمثيل ، واقامة التحالفات الاقليمية والدولية على حساب حرية الشعوب التي يخافها القريب والبعيد ، واستخدام الدعم الخارجي لكسب الولاءات ، واحتكار السلاح ،ثم الهيمنة على السلطة والثروة ، �واعادة انتاج دولة القيود والمحرمات والأمن والتمييز والفساد ، وتفكيك وحدة المجتمع التي لا تقوم إلا على أساس مدني سياسي . �فالتطبيقات العملية لسياسات الجماعة المختلفة باختلاف الظروف، هي أشكال متنوعة لمنهج وأيديولوجيا إخوانية واحدة ، لم تكن هي من أطلقت الثورات ولا يمكنها أن تمثلها أو تعبر عنها ، بل فقط من يحاول التسلق ثم الهيمنة عليها� وحرفها عن أهدافها في الحرية والديمقراطية واحترام الآخر والشراكة معه ، والكرامة والقيم والايمان والعفة والزهد والحداثة والحضارة .
والمطلوب منا اليوم لحماية الثورات والربيع والمستقبل العربي ، هو فتح حوار فكري واضح وصريح يفكك منظومتهم �العقلية الأيديولوجية الدوغمائية ، ونظامهم السياسي الشمولي ، ويعيد للمسلمين حقهم في قراءة الدين وفهمه وتطبيقه عبر مناهج عقلية مختلفة ، تتناسب مع الديمقراطية والعصر وامينة لمنهج الدين الحق ، الذي هو فطرة وهدى ورحمة . وتسمح بإعادة انتاج الدولة المدنية المتميزة عن الدولة الدينية �كجامع سياسي وحيد لمجتمعات متعددة متنوعة ميالة للوحدة والاندماج الاقليمي والعالمي . وقبل كل ذلك وبعده كبح جماح التبعية والهيمنة والنفوذ الأجنبي والحفاظ على السيادة كجزء لا يتجزأ من الحرية ..� والطريق هو الاحتكام دوما للشعب والمناضلين المخلصين ، وكف يد المتسلقين الوكلاء وفهمكم كفاية .