سوريا اليوم
مراسل صقور الأبداع من سوريا
هيفاء بيطار : السفير�
يبدو الحديث عن الحالة النفسية للمواطن السوري نوعاً من الترف. ففي وطن تحول إلى ساحــة وغى، حيث القــتل والدمــار والنــزوح هو الواقع المؤكد في سوريا، وحيث كل الجهود الدولية عاجزة عن إيجــاد حل للأزمة السورية، بل الكل يطمئن السوريين إلى مزيد من القتل ومزيد من السلاح.
وسط هذه الحقيقة، يبدو التطرق للحالة النفسية للمواطن السوري الباقي على قيد الحياة حتى اللحظة أمراً يحمل الكثير من الغرابة، كما لو أن صوتاً «ساخراً» يهزأ بكل سوري: لما يكون السلاح هو اللغة في سوريا والقتل هو السلعة الوحيدة التي لا يمكن أن تنقطع كالغاز والمازوت والكهرباء والخبز وحليب الأطفال، لما يكون الموت سخياً إلى هذه الدرجة في سوريا، فأية سخافة أن نتحدث عن الحالة النفسية للسوريين الباقين على قيد الحياة، غير ضامنين أنه بين شهيق وزفير قد تخترق قلبهم رصاصة تنقلهم إلى جوار من سبقوهم في المقابر الجماعية.
لكنني أؤمن بأن قتل الروح لا يقل فظاعة عن قتل الجسد. وقد ذكرت الكتب السماوية، خاصة الإنجيل، فظاعة جريمة قتل الروح، وأجدني طوال عامين ـ بحكم عملي كطبيبة عيون في مستشفى حكومي ـ شاهدة على حالات مروعة وعجيبة من الانهيارات النفسية للسوريين، ويمكن ذكر بعضها فقد يستفيد منها التجار الذين يعدون من وقت لآخر برامج خلّبية عن الدعم النفسي للأطفال السوريين الذين نزحوا أو الذين شاهدوا أهلهم يُذبحــون أمامهم، أو شاهدوا الصواريخ تعبر الفضاء، وللوهلة الأولى اعتقدوا أنــها ألعاب نارية جميلة، ولما تحولت بيوتهم وأحلامهم إلى أنقاض أدركـوا أنها ألــعاب جهنمية.
سأحكي عن «س». كانت أماً مثالية لثلاثة أطفال في عمر المراهقة، وزوجة يقول عنها زوجها إنها امرأة لا تتعب، معطاءة إلى أبعد الحدود. «س» تسكن في حلب، ولما بدأت المعارك في حلب والقصف بكل أنواع الأسلحة، لم تعد قادرة على استيعاب كل تلك الوحشية المصرّة على التدمير والقتل… ولما شاهدت جثثاً مرمية في الطريق تنهشها الكلاب الضالة، تقصفت شخصيتها، وانهارت تماما، وتركت حلب وجاءت إلى بيت قريبة لها في اللاذقية تاركة زوجها وأولادها في قلب الخطر. وفي اللاذقية زرتها ووجدتها قد تحوّلت إلى إنسان آلي تقضي كل ساعات نهارها في التطريز، كما لو أنها شخصية رواية ماركيز الرائعة عن المرأة التي سجنت نفسها تغزل الصوف مدى الحياة بانتظار حبيبها.
لكن «س» ليست واثقة بأن الحال ستهدأ. تحولت تلك الأم المحبة المعطاءة إلى صنم من ذعر. شيء ما في روحها سُحق وسحل، والقصف بالصواريخ والدبابات لم يصب جسدها بل أصاب روحها. اعتقد كل من حولها أن حالتها مؤقتة فانهالوا عليها في البداية بالتقريع القاسي، إذ كيف تترك أسرتها في حلب في قلب الخطر وأولادها بحاجة لدعمها! كانت كالصنم تصغي أو لا تصغي، لا أعرف. مرت أشهر و«س» تطرّز ولا تبالي بنصائح رجال الدين الذين نصحوها بالإكثار من الصلاة والدعاء لرب العالمين، ولم تهتم للدواء الذي أعطاها إياه طبيب نفساني، إذ رمته في القمامة. إنسانة تخثرت من الرعب ولم تعد تشبه ما كانته قبل مجازر حلب. لم تعد أماً ولا زوجة ولا إنسانة معطاءة. تحوّلت إلى آلة تطريز.
ومنذ أيام كنت في إحدى الدوائر الحكومية من أجل معاملة لأبي، وكعادة الموظفين يتبادلون الأخبار صباحاً مع فنجان القهوة. كان الحديث يدور بين زميلين عن ضابــط عالي الرتبــة اختُطف في حمص أمام أولاده، وفوجئت بأن موظــفة بجانبهما تتابع الحديث وتنفجر بضحك هستيري، حتى تنطوي من الضحك، والأغرب أن زميليها لم ينزعجـا منها ولم يعيراها أي انتباه. ثم تحدث الزميلان وهما يرشــفان القهــوة عن الشاحنات المحملة بالجثث التي يزيد عددها عن المئتــين والمغطــاة بشراشف كي لا يشاهدها الناس، بل ليعتــقدوا أنها جثث أبقــار أو خراف! لكن الهواء طيّر الشرشف وانكشف المنظر للمارة: أكــداس من الســوريين قتلى متكدســين فوق بعضهم البعض والناس يرمقونهم بعيون خرساء وشــفاه ألصقها صمغ الذعر، فما كان من الموظفة ذاتها إلا وتقصــفت من الضحك حتى سالت دموعها! ضحك هستيري، تأملت وجهها: كم يتشوّه من الألم وهي تضحك لأتذكر صحة الأمثال: الطير يرقص مذبوحاً من الألم… والإنسان يضحك مذبوحاً من الألم!
ما أذهلني ليس انهيار تلك الموظفة بل لامبالاة زملائها الذين يزيد عددهم عن ثمانية في الغرفة نفسها عن مواساتها أو حتى زجرها لتلك الطريقة الوقحة في الضحك. لكن أكثر ما يؤلمني الحالات النفسية التي تصيب الأطفال، كحال منذر: طفل في السابعة من عمره لا يريد أن يستيقظ، يظل نائماً عارفاً بحدسه الطفولي أنه لم تعد من رحمة في هذا الوطن سوى رحمة النوم، وينام في كل مكان، في البيت والمدرسة والحافلة، ولا يبالي بزجر أهله ومعلمته له… ينظر إليهم باستخفاف ويغرق في النوم.
منذر شاهد زملاءه ملفوفين بشراشف بيضاء وبقايا دماء متخثرة على الوجوه الطفولية الشاحبة! منذر شاهد زملاءه النازحين يغوصون بأقدامهم العارية في وحل المخيمات! ومنذر صُعق من صوت الرصاص والصواريخ، وشاهد الدمار ولم يسعفه الكبار وحكمة الكبار وإجرام الكبار ليستوعب لماذا يحصل كل هذا الخراب. لم يجد طفل سوريا سوى الهروب إلى رحمة النوم كي يعفيه من وجع الصحو.
لكن أكثر ما يُشعرني بالخزي والألم هو تلك الحالة العامة من رغبة الأهل أن يهج أولادهم إلى خارج سوريا. الأسرة التي يوحّدها الحب ولمّ الشمل ما عادت أسرة. العديد من العائلات يُهرّبون أولادهم خوفاً عليهم من القتل… والذي يمشي في شوارع سوريا يجدها مزينة بحشد من أوراق نعي لشهداء أبطال وشهداء عاديين، وشهداء لم يعرفوا لماذا استشهدوا، ولماذا لم يعيشوا ويعشقوا ويتزوجوا وينجبوا أطفالا!
ترى أي إحباط ويأس يدفع الأهل إلى ترحيل فلذات أكبادهم خارج بيتهم ودفء نظراتهم، ويقذفون بهم خارج حدود وطن تحول إلى جحيم، ولسان حالهم يقول: نقذف بهم خارجاً أفضل من أن تقذفهم رصاصة أو صاروخ ويموتون!
أي مواطن سوري ما زال على قيد الحياة اختزلت حياته بنشاط اجتماعي وحيد هو التعزية! كيفما مشيت في شوارع اللاذقية وأزقتها أجد خيماً للتعزية وصورة شاب كان حياً ومات على مدخل الخيمة مبتسماً! نسينا أن هناك شيئاً اسمه مسرح وشيئاً اسمه سينما… نسينا أن هناك رحلة، نسميها «سيرانا»، حيث نشوي اللحم تحت أشجار الغابة، بخاصة طريق كسب، فالغابات احترقت ولم يبق إلا الفحم الأسود كحزننا.
كم أتذكر بالتفصيل الكتاب الرائــع: «علم نفس الجماهير»، وللأسف نسيت اسم مؤلفه. الفظائع التي شهدتهــا جعلت ذاكرتي تضعف، لكن الحمد لله لم أفقد عقلي. «علم نفس الجماهــير» يشرح كيف أن مجتمعاً بأكمله يمكن أن يصاب بحالة يأس وإحباط، بسبب ظروف فائقة القسوة والوحشية.
يمكنني أن أستشهد بمئات القصص لسوريين ما زالوا على قيد الحياة لكن أرواحهم تشظت وتشوهت من وحشية ما يحصل. وكل واحد يدرك بوعيه، أو لا وعيه، أنه مشروع قتيل. يدرك ذلك وهو ذاهب ليعزي بأخ له أو قريب كان حياً وقتل. كما لو أن القتل غاية بحد ذاته. كم آلمني قول صديقة لي: أحسد الذين ماتوا قبل عامين! على الأقل هم لم يشهدوا ويشعروا بما شهدنا، ونحن نموت كل يوم مئة ميتة.
أعزائي الأطباء النفسانيين هل من علاج نفسي للإنسان السوري؟! أتحداكم أن تجدوا دواءً شافياً لأوجاع الروح! ربما عليّ أن أعيد قراءة الكتاب الرائع لنقيب الأطباء النفسانيين في العالم أحمد عكاشة. كتاب مذهل عنوانه «ثقوب في الضمير». بالتأكيد ضمير العالم هو مهترئ ومثقوب حتى يسمح ويتعمد تدمير سوريا وإذلال شعب عظيم كالشعب السوري يتطلع للحرية والكرامة! يجب أولا رتق ضمير العالم المجرم ثم البحث عن إمكان العلاج النفسي للسوري، الذي استحق لقب أيقونة الألم في عصر انحطاط الحضارة الإنسانية.
يبدو الحديث عن الحالة النفسية للمواطن السوري نوعاً من الترف. ففي وطن تحول إلى ساحــة وغى، حيث القــتل والدمــار والنــزوح هو الواقع المؤكد في سوريا، وحيث كل الجهود الدولية عاجزة عن إيجــاد حل للأزمة السورية، بل الكل يطمئن السوريين إلى مزيد من القتل ومزيد من السلاح.
وسط هذه الحقيقة، يبدو التطرق للحالة النفسية للمواطن السوري الباقي على قيد الحياة حتى اللحظة أمراً يحمل الكثير من الغرابة، كما لو أن صوتاً «ساخراً» يهزأ بكل سوري: لما يكون السلاح هو اللغة في سوريا والقتل هو السلعة الوحيدة التي لا يمكن أن تنقطع كالغاز والمازوت والكهرباء والخبز وحليب الأطفال، لما يكون الموت سخياً إلى هذه الدرجة في سوريا، فأية سخافة أن نتحدث عن الحالة النفسية للسوريين الباقين على قيد الحياة، غير ضامنين أنه بين شهيق وزفير قد تخترق قلبهم رصاصة تنقلهم إلى جوار من سبقوهم في المقابر الجماعية.
لكنني أؤمن بأن قتل الروح لا يقل فظاعة عن قتل الجسد. وقد ذكرت الكتب السماوية، خاصة الإنجيل، فظاعة جريمة قتل الروح، وأجدني طوال عامين ـ بحكم عملي كطبيبة عيون في مستشفى حكومي ـ شاهدة على حالات مروعة وعجيبة من الانهيارات النفسية للسوريين، ويمكن ذكر بعضها فقد يستفيد منها التجار الذين يعدون من وقت لآخر برامج خلّبية عن الدعم النفسي للأطفال السوريين الذين نزحوا أو الذين شاهدوا أهلهم يُذبحــون أمامهم، أو شاهدوا الصواريخ تعبر الفضاء، وللوهلة الأولى اعتقدوا أنــها ألعاب نارية جميلة، ولما تحولت بيوتهم وأحلامهم إلى أنقاض أدركـوا أنها ألــعاب جهنمية.
سأحكي عن «س». كانت أماً مثالية لثلاثة أطفال في عمر المراهقة، وزوجة يقول عنها زوجها إنها امرأة لا تتعب، معطاءة إلى أبعد الحدود. «س» تسكن في حلب، ولما بدأت المعارك في حلب والقصف بكل أنواع الأسلحة، لم تعد قادرة على استيعاب كل تلك الوحشية المصرّة على التدمير والقتل… ولما شاهدت جثثاً مرمية في الطريق تنهشها الكلاب الضالة، تقصفت شخصيتها، وانهارت تماما، وتركت حلب وجاءت إلى بيت قريبة لها في اللاذقية تاركة زوجها وأولادها في قلب الخطر. وفي اللاذقية زرتها ووجدتها قد تحوّلت إلى إنسان آلي تقضي كل ساعات نهارها في التطريز، كما لو أنها شخصية رواية ماركيز الرائعة عن المرأة التي سجنت نفسها تغزل الصوف مدى الحياة بانتظار حبيبها.
لكن «س» ليست واثقة بأن الحال ستهدأ. تحولت تلك الأم المحبة المعطاءة إلى صنم من ذعر. شيء ما في روحها سُحق وسحل، والقصف بالصواريخ والدبابات لم يصب جسدها بل أصاب روحها. اعتقد كل من حولها أن حالتها مؤقتة فانهالوا عليها في البداية بالتقريع القاسي، إذ كيف تترك أسرتها في حلب في قلب الخطر وأولادها بحاجة لدعمها! كانت كالصنم تصغي أو لا تصغي، لا أعرف. مرت أشهر و«س» تطرّز ولا تبالي بنصائح رجال الدين الذين نصحوها بالإكثار من الصلاة والدعاء لرب العالمين، ولم تهتم للدواء الذي أعطاها إياه طبيب نفساني، إذ رمته في القمامة. إنسانة تخثرت من الرعب ولم تعد تشبه ما كانته قبل مجازر حلب. لم تعد أماً ولا زوجة ولا إنسانة معطاءة. تحوّلت إلى آلة تطريز.
ومنذ أيام كنت في إحدى الدوائر الحكومية من أجل معاملة لأبي، وكعادة الموظفين يتبادلون الأخبار صباحاً مع فنجان القهوة. كان الحديث يدور بين زميلين عن ضابــط عالي الرتبــة اختُطف في حمص أمام أولاده، وفوجئت بأن موظــفة بجانبهما تتابع الحديث وتنفجر بضحك هستيري، حتى تنطوي من الضحك، والأغرب أن زميليها لم ينزعجـا منها ولم يعيراها أي انتباه. ثم تحدث الزميلان وهما يرشــفان القهــوة عن الشاحنات المحملة بالجثث التي يزيد عددها عن المئتــين والمغطــاة بشراشف كي لا يشاهدها الناس، بل ليعتــقدوا أنها جثث أبقــار أو خراف! لكن الهواء طيّر الشرشف وانكشف المنظر للمارة: أكــداس من الســوريين قتلى متكدســين فوق بعضهم البعض والناس يرمقونهم بعيون خرساء وشــفاه ألصقها صمغ الذعر، فما كان من الموظفة ذاتها إلا وتقصــفت من الضحك حتى سالت دموعها! ضحك هستيري، تأملت وجهها: كم يتشوّه من الألم وهي تضحك لأتذكر صحة الأمثال: الطير يرقص مذبوحاً من الألم… والإنسان يضحك مذبوحاً من الألم!
ما أذهلني ليس انهيار تلك الموظفة بل لامبالاة زملائها الذين يزيد عددهم عن ثمانية في الغرفة نفسها عن مواساتها أو حتى زجرها لتلك الطريقة الوقحة في الضحك. لكن أكثر ما يؤلمني الحالات النفسية التي تصيب الأطفال، كحال منذر: طفل في السابعة من عمره لا يريد أن يستيقظ، يظل نائماً عارفاً بحدسه الطفولي أنه لم تعد من رحمة في هذا الوطن سوى رحمة النوم، وينام في كل مكان، في البيت والمدرسة والحافلة، ولا يبالي بزجر أهله ومعلمته له… ينظر إليهم باستخفاف ويغرق في النوم.
منذر شاهد زملاءه ملفوفين بشراشف بيضاء وبقايا دماء متخثرة على الوجوه الطفولية الشاحبة! منذر شاهد زملاءه النازحين يغوصون بأقدامهم العارية في وحل المخيمات! ومنذر صُعق من صوت الرصاص والصواريخ، وشاهد الدمار ولم يسعفه الكبار وحكمة الكبار وإجرام الكبار ليستوعب لماذا يحصل كل هذا الخراب. لم يجد طفل سوريا سوى الهروب إلى رحمة النوم كي يعفيه من وجع الصحو.
لكن أكثر ما يُشعرني بالخزي والألم هو تلك الحالة العامة من رغبة الأهل أن يهج أولادهم إلى خارج سوريا. الأسرة التي يوحّدها الحب ولمّ الشمل ما عادت أسرة. العديد من العائلات يُهرّبون أولادهم خوفاً عليهم من القتل… والذي يمشي في شوارع سوريا يجدها مزينة بحشد من أوراق نعي لشهداء أبطال وشهداء عاديين، وشهداء لم يعرفوا لماذا استشهدوا، ولماذا لم يعيشوا ويعشقوا ويتزوجوا وينجبوا أطفالا!
ترى أي إحباط ويأس يدفع الأهل إلى ترحيل فلذات أكبادهم خارج بيتهم ودفء نظراتهم، ويقذفون بهم خارج حدود وطن تحول إلى جحيم، ولسان حالهم يقول: نقذف بهم خارجاً أفضل من أن تقذفهم رصاصة أو صاروخ ويموتون!
أي مواطن سوري ما زال على قيد الحياة اختزلت حياته بنشاط اجتماعي وحيد هو التعزية! كيفما مشيت في شوارع اللاذقية وأزقتها أجد خيماً للتعزية وصورة شاب كان حياً ومات على مدخل الخيمة مبتسماً! نسينا أن هناك شيئاً اسمه مسرح وشيئاً اسمه سينما… نسينا أن هناك رحلة، نسميها «سيرانا»، حيث نشوي اللحم تحت أشجار الغابة، بخاصة طريق كسب، فالغابات احترقت ولم يبق إلا الفحم الأسود كحزننا.
كم أتذكر بالتفصيل الكتاب الرائــع: «علم نفس الجماهير»، وللأسف نسيت اسم مؤلفه. الفظائع التي شهدتهــا جعلت ذاكرتي تضعف، لكن الحمد لله لم أفقد عقلي. «علم نفس الجماهــير» يشرح كيف أن مجتمعاً بأكمله يمكن أن يصاب بحالة يأس وإحباط، بسبب ظروف فائقة القسوة والوحشية.
يمكنني أن أستشهد بمئات القصص لسوريين ما زالوا على قيد الحياة لكن أرواحهم تشظت وتشوهت من وحشية ما يحصل. وكل واحد يدرك بوعيه، أو لا وعيه، أنه مشروع قتيل. يدرك ذلك وهو ذاهب ليعزي بأخ له أو قريب كان حياً وقتل. كما لو أن القتل غاية بحد ذاته. كم آلمني قول صديقة لي: أحسد الذين ماتوا قبل عامين! على الأقل هم لم يشهدوا ويشعروا بما شهدنا، ونحن نموت كل يوم مئة ميتة.
أعزائي الأطباء النفسانيين هل من علاج نفسي للإنسان السوري؟! أتحداكم أن تجدوا دواءً شافياً لأوجاع الروح! ربما عليّ أن أعيد قراءة الكتاب الرائع لنقيب الأطباء النفسانيين في العالم أحمد عكاشة. كتاب مذهل عنوانه «ثقوب في الضمير». بالتأكيد ضمير العالم هو مهترئ ومثقوب حتى يسمح ويتعمد تدمير سوريا وإذلال شعب عظيم كالشعب السوري يتطلع للحرية والكرامة! يجب أولا رتق ضمير العالم المجرم ثم البحث عن إمكان العلاج النفسي للسوري، الذي استحق لقب أيقونة الألم في عصر انحطاط الحضارة الإنسانية.