2riadh
Excellent
صلح الحديبية وعلامات العارفين
في صلح الحديبية الذي وافق عليه الرسول عليه الصلاة والسلام ووقعه سهيل بن عمرو نيابة عن قريش في أواخر
السنة السادسة للهجرة. كان الإجحاف واضحاً في حقوق
المسلمين بالقياس إلى الحقوق التي منحت لقريش.
وهذا هو نص الاتفاق"هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب
عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض،
على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إسلال ولا إغلال، وإنه
من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه... وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة،
وأنه إذا كان عام قابل، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك،
فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها"
ولأمر يريده الله وصل أبو جندل بعد الاتفاق هارباً من قريش وطلب حماية المسلمين
"فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه،
وأخذ بتلبيبه... يجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته، يا معشر المسلمين،
أَأُرد إلى المشركين يفتنوني في ديني. فزاد ذلك الناس
إلى ما بهم. فقال الرسول ( [يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك
من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً،
وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم]. وكان وصول أبا جندل سبباً
إضافياً لصب الزيت على النار في قلوب المسلمين. ولكن من
سيتكلم أو يعترض باسم الغاضبين من المسلمين. سيتقدم عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما،
فهو الأقرب لرسول الله قائلاً: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟
قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلا،
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر يا عمر إلزمْ غرزه،
فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله". ولكن عمر رضي الله عنه
لم يرضه هذا الكلام، وإن شهد كأبي بكر أنه رسول الله.
ولكن هل كان إدراكه لسر الرسالة، ومن هو الآمر بالصلح لعبد الله ورسوله، كإدراك أبي بكر؟.
من هذا الإدراك وبسببه يتبين الفرق في مستوى المعرفة الروحية
بين أبي بكر وعمر في تلك المرحلة، ومن خلال هذا المقياس،
الالتزام بأمر رسول الله ( دون اعتراض ولا جدالٍ ولا نقاش، إلا بإذنه واختياره،
نستطيع أن نعرف المستوى الروحي الذي وصله كلّ صحابي، لأن الذين فهموا حقيقة علم الروح وتذوقوها،
سيعرفون حقيقة كل أمر نبوي، ومن الآمر به،
ولذلك سيطيعون. ولهذا سيتجسد إيمان أبا بكر وعلمه بنصيحته لكل
من يسأله عن أمر قرره الرسول
( بقوله "الزم غرزه" أي الزم طريقه وأمره وهذا السلوك والانقياد لا يعود إلى طبيعة خاصة لأبي بكر رضي الله عنه،
وإنما يعود لعلم وقر في قلبه. ولهذا سيقول الرسول
عن أبي بكر ما سبقكم أبو بكر بصلاة ولا صيام، ولكن سبقكم بشيء وقر في قلبه.
وسيسميه الرسول ( بالصديق) بسبب رده على من شككوا أو اضطربوا بعد تصريح الرسول
( عن حادثة الإسراء. فقد قال لهم أبو بكر "إني لأصدقه فيما هو أبعدُ من ذلك. أصدق بخبر السماء ـ أي يأتيه ـ في غدوة أو روحة"
ولهذا سيصمت أبو بكر في أحرج المواقف، ولن يراجع رسول الله أو يشير عليه برأي دون أن يسأله. لقد صمت عن علم وأدب مع رسول الله
يوم سألته ابنته أم المؤمنين أن يدافع عنها في محنتها قائلة "أجب عني رسول الله ( فيما قال. فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله
"وكررت أمها نفس القول. ولم يتغير إيمان أبي بكر أو صلته بالرسول طيلة الفترة التي لجأت فيها ابنته إلى بيته، بل لم يُعرف عنه أنه راجع الرسول
في هذا الأمر، فتصرف وكأن الأمر لا يعنيه، لأنه على يقين بأن (النبي أولى بالمؤمنين من أنفُسهم)( (الأحزاب/6) كما وصفه الله. وإنه ما أرسل
إلا ليكون [رحمة للعالمين] فكيف يسأله من عرفه صاحباً قبل النبوة، وكان أول مبايع لـه بين الرجال، ولم يسأله دليلاً ولا برهاناً ولا معجزة،
لأنه من معرفته به قبل النبوة، كان يدرك أنه للنبوة أهلاً. هذا هو الصدّيق رضي الله عنه الذي سيتميز بمواقف كثيرة بين الصحابة، وسيرتقي
إلى علوم روحية لم يسبقه أحد
إليها. عندما طلب الرسولمن أصحابه أن يتصدقوا بما يستطيعون، أراد عمر أن يسبق أبا بكر رضي الله عنهما،
والتسابق على فعل الخيرات من شيم النفوس الطاهرة، فجاء بنصف ماله، وجاء أبو بكر بماله كله. وحين سأله الرسول
( يا أبا بكر: ما أبقيت لأهلك؟. فقال: أبقيت لهم الله ورسوله).
ما هي النتيجة عندما سمع عمر جواب أبي بكر، ومن يخطر بباله
مثل هذا الجواب غير رجل كأبي بكر ملأ الإيمان قلبه حتى فاض على لسانه؟. فقال عمر في نفسه:
"لا أسبقه إلى خير أبداً" إذ من يستطيع أن يسابق أبا بكر؟.
ولهذا أقسم عمر وهو في الخلافة بأن يضرب من يفضله على أبي بكر حد المفتري.
وقال "والله لليلة من أبي بكر خيرُ من آل عمر" وسوف تظهر
مزايا أبا بكر في المواقف الحاسمة التي سيتوقف عليها مصير المسلمين بعد وفاة الرسول.
هذا الصحابي الصامت الذي لا يكاد يسمع لـه صوت أو رأي أو موقف
في حياة رسول الله ، لأن حكمة الوحي أكبر من حكمة كل الحكماء، ولأن الرسول ما كان ينطق
عن الهوى، كما كان يعرف، أخفى نفسه،
وأفناها في طاعة الله ورسوله، حتى إنه حين صلى بالمسلمين في مرض رسول الله
وبناء على أمره، لم يكد صوته يسمع. ولكنه
بعد ذلك، وحين ألمت الملمات بالمسلمين، كان كأنه الوحي الجديد الناظر بنور الله إلى مصالحهم،
فهو الذي سيذكّر من هاله موت الرسول وشك فيه،
بأن "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات،
ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت"
فهدّأ بكلامه النفوس المتوترة والخائفة، ودعاها لعبادة خالقها.
وهو الذي سيحدد مكان دفن
الرسول حيث توفي ليحلّ مشكلة اختلف المسلمون عليها. وهو الذي سيجمع الأمة خوفاً عليها من الفرقة، ليس طمعاً في خلافة أو منصب،
ولكن لتمكن الإسلام وحماية المسلمين الذين لم يجتمعوا إلا عليه حين عادوا إلى رشدهم، بعد أن تنازعوا، وكادت العصبية القبلية أن تمزقهم.
وهو الذي سيرسل جيش أسامة إلى مؤتة تنفيذاً لأمر رسول الله حين اختلف المسلمون، واقترح بعضهم تأخيره أو توجيهه لمهمة جديدة، أو تغيير قائده،
بسبب حرج موقف المسلمين، وظهور المرتدين، ووصول الأخبار عن استعدادات رومانية وفارسية للهجوم على المسلمين. فماذا سيقول أبو بكر لمستشاريه
من الصحابة المشهود لهم بالمكانة والحكمة، والذين تؤيد رأيهم حسابات التوازن العسكري، والحاجة لتجميع القوى في المدينة بدلاً من بعثرتها لمواجهة الخطر الداهم.
والأقرب كان خطر المرتدين العرب، لا خطر الروم. والحكمة العقلية تقتضي في مثل هذه الظروف مواجهة الخطر الداهم، والابتعاد عن
إيقاظ الخطر النائم الذي يمثله الروم.
وكانت هناك مشكلة تضاف إلى هذه المشاكل، وهي اعتراض بعض المسلمين على تكليف أسامة بن زيد لقيادة هذا الجيش. وهناك مشكلة
حول شرعية قتال أهل الردة، فقد رأى بعض المسلمين أن قتالهم لا يجوز ما داموا يقرون بالإسلام
وينطقون بالشهادة، وإن رفضوا دفع الزكاة. وكانوا يستندون على أحاديث رويت عن الرسول في مناسبات لا تنطبق على أحوال المرتدين،
ولا تصلح للحكم عليهم. فكان لابد من الاجتهاد، والخروج من حرفية النصوص إلى معناها. وكل ذلك سيفعله أبو بكر بمفرده، لأن آراء الصحابة واجتهاداتهم اختلفت
عن رأيه، ولم يتفق رأي أي منهم أو اجتهاده مع ما ذهب إليه. لهذا قال لهم، بعد أن استشارهم، وأصدر أوامره من مواقع الروح ونور البصيرة.
قال مستغرباً، ومتعجباً، لأنه على يقين، ولأنهم كأنما لا يعرفون سر الوحي ولا يعرفون أبا بكر "أنا أحبس جيشاً بعثه رسول الله. لقد اجترأت على أمر عظيم.
فو الذي نفسي بيده لأن تميل عليّ العرب أحب إلي من أن أحبس جيشاً بعثهم رسول الله. امض يا أسامة في جيشك للوجه الذي أُمرت به،
ثم أغز حيث أمرك رسول الله من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة، فإن الله سيكفي ما تركت، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب
فاستشيره واستعين به، فإنه ذو رأي ومناصح للإسلام فافعل".
وبيّن للصحابة أن أمر جيش أسامة لا رأي لأحد فيه، ولا حكم، ما دام قد أمر به رسول الله قبل وفاته. فقال
[إنكم قد علمتم أنه قد كان من عهد رسول الله إليكم في المشورة فيما لم يمض من نبيكم به سنة ولم ينزل عليكم به كتاب]
وسيقول لمن خاف وخوفه من خطر المرتدين المحدق بالمدينة
[والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأول منه]
وسيقول لمن خالفه في قتال أهل الردة، أو اقترح تأجيله، استناداً لفهم خاطئ للشريعة، وخوفاً من مخالفة نصوصها،
فكان السؤال الذي طرح على أبي بكررضي الله عنه
وكان السائل عمر الذي لا يمثل نفسه فقط، مما يدل على الحيرة التي أصابت المسلمين في قتال أهل الردة "قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس
وقد قال رسول الله: [أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فمن قال، لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله].
قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ( لقاتلتهم عليه]
ستظهر للمسلمين حقيقة الروح التي كانت تحرك أبا بكر وترشده في اتخاذ قراراته، والتي سيكون لها تأثيرها على مصير الإسلام ومستقبله، فإنه سينجز في سنتين
كل ما يلزم لبناء دولة الإيمان، ومدّها بمصادر الحياة والاستمرار والاستقرار، إذ بقمعه للفتن الداخلية أعد العدة لكي تدقّ جيوش المسلمين أبواب
الإمبراطوريتين، الرومانية والفارسية، فكانت جيوش المسلمين عند وفاته على أبواب دمشق،
كما كانت قد دخلت العراق وأضحت على حدود الدولة الفارسية.
وفي كل المناسبات سيظهر إيمان أبي بكر الذي لا يتزعزع في الحرب والسلم والصحة والمرض. ففي مرضه
زاره الصحابة وسألوه "ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك؟ فقال: [قد نظر إلي]. قالوا: فماذا قال لك؟ قال: [قال إني فعالٌ لما أريد] ومن يستطيع أن
يقنع أبا بكر بفائدة أدوية الأطباء وقد أيقن بأن الطبيب هو الله؟. اكسروا الزجاجات إذاً، ولا تبحثوا عن الأسباب، بل عن مسبب الأسباب.
لقد انتهى أجل من استضاء بنور النبوة وكان حقاً خليفة رسول الله الجدير بهذه الصفة. وسوف ينال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسطاً
من هذا النور الذي ستكشف عنه أحواله، بعد أن صال وجال في مواقع العقل الذي لم يكشف لـه عن أسرار النبوة. فتعلم، وقطع المسافة إلى
روحه التي ستمده بنورها الذي لا يغيب، بعد أن كان خفياً
في ليل العقل، وظلمة الجسد.
المصدر: مقتطفات من كتاب شرائع النفس والعقل والروح
في صلح الحديبية الذي وافق عليه الرسول عليه الصلاة والسلام ووقعه سهيل بن عمرو نيابة عن قريش في أواخر
السنة السادسة للهجرة. كان الإجحاف واضحاً في حقوق
المسلمين بالقياس إلى الحقوق التي منحت لقريش.
وهذا هو نص الاتفاق"هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب
عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض،
على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إسلال ولا إغلال، وإنه
من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه... وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة،
وأنه إذا كان عام قابل، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك،
فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها"
ولأمر يريده الله وصل أبو جندل بعد الاتفاق هارباً من قريش وطلب حماية المسلمين
"فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه،
وأخذ بتلبيبه... يجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته، يا معشر المسلمين،
أَأُرد إلى المشركين يفتنوني في ديني. فزاد ذلك الناس
إلى ما بهم. فقال الرسول ( [يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك
من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً،
وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم]. وكان وصول أبا جندل سبباً
إضافياً لصب الزيت على النار في قلوب المسلمين. ولكن من
سيتكلم أو يعترض باسم الغاضبين من المسلمين. سيتقدم عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما،
فهو الأقرب لرسول الله قائلاً: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟
قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلا،
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر يا عمر إلزمْ غرزه،
فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله". ولكن عمر رضي الله عنه
لم يرضه هذا الكلام، وإن شهد كأبي بكر أنه رسول الله.
ولكن هل كان إدراكه لسر الرسالة، ومن هو الآمر بالصلح لعبد الله ورسوله، كإدراك أبي بكر؟.
من هذا الإدراك وبسببه يتبين الفرق في مستوى المعرفة الروحية
بين أبي بكر وعمر في تلك المرحلة، ومن خلال هذا المقياس،
الالتزام بأمر رسول الله ( دون اعتراض ولا جدالٍ ولا نقاش، إلا بإذنه واختياره،
نستطيع أن نعرف المستوى الروحي الذي وصله كلّ صحابي، لأن الذين فهموا حقيقة علم الروح وتذوقوها،
سيعرفون حقيقة كل أمر نبوي، ومن الآمر به،
ولذلك سيطيعون. ولهذا سيتجسد إيمان أبا بكر وعلمه بنصيحته لكل
من يسأله عن أمر قرره الرسول
( بقوله "الزم غرزه" أي الزم طريقه وأمره وهذا السلوك والانقياد لا يعود إلى طبيعة خاصة لأبي بكر رضي الله عنه،
وإنما يعود لعلم وقر في قلبه. ولهذا سيقول الرسول
عن أبي بكر ما سبقكم أبو بكر بصلاة ولا صيام، ولكن سبقكم بشيء وقر في قلبه.
وسيسميه الرسول ( بالصديق) بسبب رده على من شككوا أو اضطربوا بعد تصريح الرسول
( عن حادثة الإسراء. فقد قال لهم أبو بكر "إني لأصدقه فيما هو أبعدُ من ذلك. أصدق بخبر السماء ـ أي يأتيه ـ في غدوة أو روحة"
ولهذا سيصمت أبو بكر في أحرج المواقف، ولن يراجع رسول الله أو يشير عليه برأي دون أن يسأله. لقد صمت عن علم وأدب مع رسول الله
يوم سألته ابنته أم المؤمنين أن يدافع عنها في محنتها قائلة "أجب عني رسول الله ( فيما قال. فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله
"وكررت أمها نفس القول. ولم يتغير إيمان أبي بكر أو صلته بالرسول طيلة الفترة التي لجأت فيها ابنته إلى بيته، بل لم يُعرف عنه أنه راجع الرسول
في هذا الأمر، فتصرف وكأن الأمر لا يعنيه، لأنه على يقين بأن (النبي أولى بالمؤمنين من أنفُسهم)( (الأحزاب/6) كما وصفه الله. وإنه ما أرسل
إلا ليكون [رحمة للعالمين] فكيف يسأله من عرفه صاحباً قبل النبوة، وكان أول مبايع لـه بين الرجال، ولم يسأله دليلاً ولا برهاناً ولا معجزة،
لأنه من معرفته به قبل النبوة، كان يدرك أنه للنبوة أهلاً. هذا هو الصدّيق رضي الله عنه الذي سيتميز بمواقف كثيرة بين الصحابة، وسيرتقي
إلى علوم روحية لم يسبقه أحد
إليها. عندما طلب الرسولمن أصحابه أن يتصدقوا بما يستطيعون، أراد عمر أن يسبق أبا بكر رضي الله عنهما،
والتسابق على فعل الخيرات من شيم النفوس الطاهرة، فجاء بنصف ماله، وجاء أبو بكر بماله كله. وحين سأله الرسول
( يا أبا بكر: ما أبقيت لأهلك؟. فقال: أبقيت لهم الله ورسوله).
ما هي النتيجة عندما سمع عمر جواب أبي بكر، ومن يخطر بباله
مثل هذا الجواب غير رجل كأبي بكر ملأ الإيمان قلبه حتى فاض على لسانه؟. فقال عمر في نفسه:
"لا أسبقه إلى خير أبداً" إذ من يستطيع أن يسابق أبا بكر؟.
ولهذا أقسم عمر وهو في الخلافة بأن يضرب من يفضله على أبي بكر حد المفتري.
وقال "والله لليلة من أبي بكر خيرُ من آل عمر" وسوف تظهر
مزايا أبا بكر في المواقف الحاسمة التي سيتوقف عليها مصير المسلمين بعد وفاة الرسول.
هذا الصحابي الصامت الذي لا يكاد يسمع لـه صوت أو رأي أو موقف
في حياة رسول الله ، لأن حكمة الوحي أكبر من حكمة كل الحكماء، ولأن الرسول ما كان ينطق
عن الهوى، كما كان يعرف، أخفى نفسه،
وأفناها في طاعة الله ورسوله، حتى إنه حين صلى بالمسلمين في مرض رسول الله
وبناء على أمره، لم يكد صوته يسمع. ولكنه
بعد ذلك، وحين ألمت الملمات بالمسلمين، كان كأنه الوحي الجديد الناظر بنور الله إلى مصالحهم،
فهو الذي سيذكّر من هاله موت الرسول وشك فيه،
بأن "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات،
ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت"
فهدّأ بكلامه النفوس المتوترة والخائفة، ودعاها لعبادة خالقها.
وهو الذي سيحدد مكان دفن
الرسول حيث توفي ليحلّ مشكلة اختلف المسلمون عليها. وهو الذي سيجمع الأمة خوفاً عليها من الفرقة، ليس طمعاً في خلافة أو منصب،
ولكن لتمكن الإسلام وحماية المسلمين الذين لم يجتمعوا إلا عليه حين عادوا إلى رشدهم، بعد أن تنازعوا، وكادت العصبية القبلية أن تمزقهم.
وهو الذي سيرسل جيش أسامة إلى مؤتة تنفيذاً لأمر رسول الله حين اختلف المسلمون، واقترح بعضهم تأخيره أو توجيهه لمهمة جديدة، أو تغيير قائده،
بسبب حرج موقف المسلمين، وظهور المرتدين، ووصول الأخبار عن استعدادات رومانية وفارسية للهجوم على المسلمين. فماذا سيقول أبو بكر لمستشاريه
من الصحابة المشهود لهم بالمكانة والحكمة، والذين تؤيد رأيهم حسابات التوازن العسكري، والحاجة لتجميع القوى في المدينة بدلاً من بعثرتها لمواجهة الخطر الداهم.
والأقرب كان خطر المرتدين العرب، لا خطر الروم. والحكمة العقلية تقتضي في مثل هذه الظروف مواجهة الخطر الداهم، والابتعاد عن
إيقاظ الخطر النائم الذي يمثله الروم.
وكانت هناك مشكلة تضاف إلى هذه المشاكل، وهي اعتراض بعض المسلمين على تكليف أسامة بن زيد لقيادة هذا الجيش. وهناك مشكلة
حول شرعية قتال أهل الردة، فقد رأى بعض المسلمين أن قتالهم لا يجوز ما داموا يقرون بالإسلام
وينطقون بالشهادة، وإن رفضوا دفع الزكاة. وكانوا يستندون على أحاديث رويت عن الرسول في مناسبات لا تنطبق على أحوال المرتدين،
ولا تصلح للحكم عليهم. فكان لابد من الاجتهاد، والخروج من حرفية النصوص إلى معناها. وكل ذلك سيفعله أبو بكر بمفرده، لأن آراء الصحابة واجتهاداتهم اختلفت
عن رأيه، ولم يتفق رأي أي منهم أو اجتهاده مع ما ذهب إليه. لهذا قال لهم، بعد أن استشارهم، وأصدر أوامره من مواقع الروح ونور البصيرة.
قال مستغرباً، ومتعجباً، لأنه على يقين، ولأنهم كأنما لا يعرفون سر الوحي ولا يعرفون أبا بكر "أنا أحبس جيشاً بعثه رسول الله. لقد اجترأت على أمر عظيم.
فو الذي نفسي بيده لأن تميل عليّ العرب أحب إلي من أن أحبس جيشاً بعثهم رسول الله. امض يا أسامة في جيشك للوجه الذي أُمرت به،
ثم أغز حيث أمرك رسول الله من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة، فإن الله سيكفي ما تركت، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب
فاستشيره واستعين به، فإنه ذو رأي ومناصح للإسلام فافعل".
وبيّن للصحابة أن أمر جيش أسامة لا رأي لأحد فيه، ولا حكم، ما دام قد أمر به رسول الله قبل وفاته. فقال
[إنكم قد علمتم أنه قد كان من عهد رسول الله إليكم في المشورة فيما لم يمض من نبيكم به سنة ولم ينزل عليكم به كتاب]
وسيقول لمن خاف وخوفه من خطر المرتدين المحدق بالمدينة
[والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأول منه]
وسيقول لمن خالفه في قتال أهل الردة، أو اقترح تأجيله، استناداً لفهم خاطئ للشريعة، وخوفاً من مخالفة نصوصها،
فكان السؤال الذي طرح على أبي بكررضي الله عنه
وكان السائل عمر الذي لا يمثل نفسه فقط، مما يدل على الحيرة التي أصابت المسلمين في قتال أهل الردة "قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس
وقد قال رسول الله: [أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فمن قال، لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله].
قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ( لقاتلتهم عليه]
ستظهر للمسلمين حقيقة الروح التي كانت تحرك أبا بكر وترشده في اتخاذ قراراته، والتي سيكون لها تأثيرها على مصير الإسلام ومستقبله، فإنه سينجز في سنتين
كل ما يلزم لبناء دولة الإيمان، ومدّها بمصادر الحياة والاستمرار والاستقرار، إذ بقمعه للفتن الداخلية أعد العدة لكي تدقّ جيوش المسلمين أبواب
الإمبراطوريتين، الرومانية والفارسية، فكانت جيوش المسلمين عند وفاته على أبواب دمشق،
كما كانت قد دخلت العراق وأضحت على حدود الدولة الفارسية.
وفي كل المناسبات سيظهر إيمان أبي بكر الذي لا يتزعزع في الحرب والسلم والصحة والمرض. ففي مرضه
زاره الصحابة وسألوه "ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك؟ فقال: [قد نظر إلي]. قالوا: فماذا قال لك؟ قال: [قال إني فعالٌ لما أريد] ومن يستطيع أن
يقنع أبا بكر بفائدة أدوية الأطباء وقد أيقن بأن الطبيب هو الله؟. اكسروا الزجاجات إذاً، ولا تبحثوا عن الأسباب، بل عن مسبب الأسباب.
لقد انتهى أجل من استضاء بنور النبوة وكان حقاً خليفة رسول الله الجدير بهذه الصفة. وسوف ينال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسطاً
من هذا النور الذي ستكشف عنه أحواله، بعد أن صال وجال في مواقع العقل الذي لم يكشف لـه عن أسرار النبوة. فتعلم، وقطع المسافة إلى
روحه التي ستمده بنورها الذي لا يغيب، بعد أن كان خفياً
في ليل العقل، وظلمة الجسد.
المصدر: مقتطفات من كتاب شرائع النفس والعقل والروح