الدكتورة هدى
.:: إدارية الأقـسـام العامـة ::.
احاديث عن الحياء , احاديث قصيرة عن الحياء , اروع كلام عن الحياء
قال تعالى :
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾
[سورة العلق الآية: 14]
أحدنا إذا اكتشفَ أنه حينما فعلَ هذا الفِعل كانَ فُلانٌ يراه، إن كانَ هذا الفِعلُ شنيعاً يذوبُ كما تذوبُ الشمعةُ المُشتعلة، فما بالك إذا كانَ خالِقُ الكون ربُّ العالمين الذي منحكَ الحياة يراكَ في تقلّبك؟ .
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾
[سورة الشعراء الآية: 213-218]
يراكَ في فِراشِكَ، يراكَ في بيتكَ، يراكَ في خلوتك، يراكَ في جلوتك، يراكَ في أثناء بيعك، يراكَ في حديثك .
أساسُ الحياء :
أنَّ الله يرى , لذلك الآية الأولى في موضوع الحياء :
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾
قبل هذه الآية :
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾
[سورة العلق الآية: 9-14]
مواقفك، نصائحك، إرشاداتك, ما تُبطن وما تٌعلن:
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾
هذه أول آية .
الآية الثانية : إن الله كان عليكم رقيبا ....
آية أخرى في الحياء ، هذه الآياتُ وحدها تكفي الإنسان :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾
[سورة النساء الآية: 1]
أنتَ تحتَ المراقبة, ويا ليتك تشعر حينما تشعر أنكَ تحتَ المراقبة كيف تكون؟ ليتكَ توازن نفسكَ, حينما تشعر أنَّ إنساناً يُراقُبك, وبيده حولٌ وطور, وبإمكانه أن يفعلَ معكَ ما يفعل, إذا شعرتَ أنه يُراقبُك, وأنكَ تحتَ مُراقبته, كيفَ تنضبط؟ كيفَ تستحيي؟ يقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
يعني إذا قرأت أنَّ هذا الطريق مُراقب بالرادار, هل تُسرع؟ إذا أسرعت, تُلتقطُ صورةٌ لمركبتك, وتُحاسبُ حِساباً عسيراً، إذا دخلتَ إلى مكان للبيع, وقرأتَ أنَّ هذه الصالة مُراقبة تلفزيونياً, كيف تتحرك؟ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
هذه أمثلة للتوضيح ولله المَثلُ الأعلى .
يعني: الإنسان إذا كان أمام شخص من أسرته, عالي الشأن, رفيع المقام، أخلاقي، له شأنه في الحياة، إذا دخلَ عليكَ البيت, كيفَ تستقبله: بثياب متبذلة؟ كيفَ تُحدّثه: ترفعُ صوتكَ أمامه؟ تُلقي عليه كلاماً سخيفاً بذيئاً فاحشاً؟ هذا إنسان من لحمٍ ودم من طينتك .
الآية الثالثة : يعلم خائنة الأعين ....
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
[سورة غافر الآية: 19]
لو أنكَ في غُرفتكَ وحدك, وغرفة جيرانك مفتوحة النوافذ, ووقفت امرأة على هذه النافذة, لا يستطيعُ رجلٌ في الأرض أن يُحاسبك, ولا أن يكتشفَ أنكَ تنظرُ إليها، إذا خانت العين ونظرت، من يعلم؟ الله سبحانه وتعالى:
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
هذه الآيات ، أما الأحاديث :
الأحاديث التي تتحدث عن الحياء .
الحديث الأول : الحياء من الإيمان ....
أما الأحاديث : في الحديث الصحيح من حديثِ ابنِ عمرَ رضيَ الله عنهما: عَنْ سَالِمِ بْنِ عبد الله, عَنْ أَبِيهِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ, وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
حديثٌ نعرفهُ جميعاً, ولكن لو وقفنا عنده وقفةً متأنية, لكشفنا العجبَ العُجاب، هَُ خُلُقٌ يُعدُ من لوازم الإيمان, فمن لم يكن مؤمناً, لا يمكن أن يكونَ متحليّاً بهذا الخُلُق .
هناك خُلق إذا توافرَ لا بدَّ من أن يكونَ الإنسان عديم الإيمان .
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ))
[أخرجه الإمام أحمد في مسنده]
فإذا كّذّبَ أو خان ليس مؤمناً، المؤمن لا يكذب، إن كانَ حييّاً فهو قطعاً مؤمنٌ, لأنَّ الحياء لا يكون إلا عن إيمان الخُلُق, الذي يؤكدُ وجوده عِندَ الإيمان هو الحياء، والخُلُق الذي ننفي معه الإيمان الكذب والخيانة, لذلك قال عليه الصلاة والسلام توفيراً للوقت والجهد: دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ "
لو كانَ مؤمناً لكانَ حييّاً, ما دام لا يستحيي, إذاً: ليسَ مؤمناً، والحياءُ من الإيمان .
الحديث الثاني : الحياء لا يأتي إلا بخير ....
عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ ))
فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ : مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ : إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا , وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً .
كيفما تحركت الحياء يُقدّمُ لكَ كلَّ خير، تستحيي أن تعصي الله لأنه يُراقبك، تستحيي أن تؤذي الناس لأنَّ الله يُراقبك، تستحيي أن تأخذَ ما ليسَ لك لأنَّ الله معك، الحياءُ لا يأتي إلا بخير.
الحديث الثالث : الحياء شعبة من الإيمان ....
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً, فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيق,ِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))
أعطاك النبي أعلى درجات الإيمان : أن توّحدَ الله عزّ وجل ، أن ترى يدَ الله وحدها تعمل في الكون، أن ترى أنهُ لا إله إلا الله هذه أعلاها، التوحيد نهاية العِلم, إذا وحّدت حُلّت كلُّ مشكلاتك, لأنَّ كلَّ علاقاتك أصبحت مع جِهةٍ واحدة وهي الله, فإذا جمعتَ كلَّ العلاقات مع جِهةٍ واحدة استرحتَ وأرحت، لذلك نهاية المطاف أن تُوّحدَ الله عزّ وجل، نهاية النهاية أن تكونَ موّحداً، وأكثر المؤمنين يقعون في الشِرك الخفيّ, بدليل قول الله عزّ وجل:
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
[سورة يوسف الآية: 106]
هنا في هذه الآية, تعني كلمة مشركون: أي الشِركَ الخفيّ وليسَ الجلي, هذا أعلى مرتبة، وأدناها: أن تقوم بعمل صالح بسيط: أن تُميطَ الأذى عن الطريق, أن تُزيحَ حجراً من طريق الناس، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان .
الإيمان اعتقاد, والإيمان سلوك, والإيمان خُلُق، أن تُميطَ الأذى سلوك، أن تستحيي من الله خُلُق، أن تعتقدَ أنه لا إله إلا الله عِلم.
الإيمان أخذ منحى علمياً، منحى سلوكياً، منحى خُلقياً .
في الحياء :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ :
((كَانَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا, فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ, عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
كان يستحيي , وجّهَ امرأة مرةً , وقال :
((أيتها المرأة, خُذي فِرصةً ممسكةً تتبعي بها أثرَ الدم, فقالت: يا رسول الله! كيف أتتبعُ بها أثرَ الدم؟ يروي أصحابهُ أنه علت وجهه حُمرة -حُمرة الحياء- وارتبك النبي عليه الصلاة والسلام, وقالَ: يا سبحان الله! تطهرينَ بها -يعني ليسَ في إمكانه أن يعطي مزيداً من التفصيلات- فأخذتها السيدة عائشة جانباً, وعلّمتها كيفَ تطهرُ بها))
كانَ حيياً .
هذا الذي لا يستحيي , له نظراتٌ وقحة، له عِباراتٌ بذيئة، له سلوكٌ جافٍ ، هذا الذي يُحرج الناس يوقعهم في الحرج، يُحمّرٌ وجوههم، يتلذذ برؤية وجوههم وهم يرتبكون, هذا ليسَ مؤمناً، المؤمن يستحيي, ويستحيي أن يوقعَ أحداً في الحرج .
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((لا تُحمّروا الوجوه))
لا تتكلم كلمة تجعل أخاكَ يضطرب، تجعل أخاكَ يرتبك، تجعل أخاكَ يحمّرُ وجهه خجلاً، لقد أسأت إليه .
كلكم يعلم : أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما كانَ مدعواً مع أصحابه إلى وليمة, صلّوا جميعاً الظهر, وتناولوا طعام الغداء, وكانَ لحمَ جزور, صدرت رائحةً من أحدهم, وأذّنَ العصر-وهذا الواحد يجب أن يقوم ليتوضأ, وأنا أظن يتمنى أن يغور في باطن الأرض، وأن لا يفُتضحُ أمام الناس، ماذا فعلَ النبي؟-, قال:
((كلُّ من أكلَ لحمَ جذور فليتوضأ, قالوا: يا رسول الله! كُلنا أكلنا هذا اللحم, قالَ: كلكم فليتوضأ))
أرادَ ألا يُحرجَ هذا الإنسان، أرادَ ألا يُخذِله، أرادَ ألا يُربِكهُ، أرادَ ألا يجعله في وضعٍ حرج .
كانَ أشدَ حياءً من العذراءِ في خِدرها, فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناهُ في وجهه .
وفي الصحيح: حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ:
((قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ, إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ))
لهذا الحديث تأويلات: التأويل الأول وهو ضعيف, يعني إذا فعلتَ فِعلاً, أو إذا أقدمتَ على فعلٍ مُباحٍ مشروعٍ, لا يُستحى منه عادةً فاصنعه، إذا أردتَ أن تشتري لأهلكَ طعاماً, وأنتَ عالي الشأن, هذا عمل مشروع وشريف, وهو وسام شرف, ومن حملَ حاجته بيده بَرِئ من الكِبر، فإذا كانَ هذا الأمر مشروعاً فافعله, هذا المعنى ضعيف, ولكن المعنى الشائع الذي أقرّهُ جمهور العلماء: أنكَ إذا فقدتَ الحياء فاصنع ما تشاء, عندئذٍ فقدتَ مقومات الأدب، فقدتَ مقومات الخُلُق، هذا فافعل ما تشاء أو فاصنع ما تشاء, هذا أمرُ تهديد .
الحديث الرابع : استحيوا من الله حق الحياء ....
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ, قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ, وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى, وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى, وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
ربنا عزّ وجل قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 102]
هذه غير اتقوا الله، طالَبَكَ النبي بكمال التقوى، وإذا قال الله عز وجل:
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾
[سورة الحج الآية: 78]
لم يطالَبَكَ بالجِهاد بأصل الجِهاد، طالَبَكَ بكمال الجِهاد. يعني: أنتَ مأمور بالتقوى وبِحقِّ التقوى, أيّ بكمال التقوى, ومأمورٌ بالجهاد وبكمال الجهاد, ومأمور بالحياء وبكمال الحياء.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ, قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ, وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى, وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى, وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
ليسَ هذا الحياء المُتعارف بين الناس، ليس هذا الحد الأدنى من الحياء، يوجد بالرأس عين, هذه العين: هل تستحي؟ هل تَغُضُ بصرها عن محارم الله، أم تتبعُ بِها عورات المُسلمين ؟ هل تنظر بكتاب أخيك بفضول ماذا يكتب؟ هل وجدتَ في الغرفة كتاباً أو دفتراً وفتحته وتأملتهُ بفضول؟ هذا ليسَ من الحياء, الدفتر ليسَ لكَ، المحفظة ليست لكَ, لماذا فتحتها؟ مكتبٌ ليسَ لكَ, لماذا جلستَ وراءهُ وفتحتَ الدروج؟ .
((أن تحفظَ الرأس وما وعى))
العين، الأذن إذا استمعت إلى مزاحٍ رخيص جنسي, هل تطرب له, أم تشمئزُّ منه, أم تقوم عن هذا المجلس, فلا تقعد بعدَ الذكرى؟ الأذن, العين, اللسان, هل جرى لِسانُكَ بكلماتٍ بذيئة، كلماتٍ فاحشة؟ تعلّم من كتاب الله كيفَ يكون الأدب؟:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 5-7]
هل تشعر أنَّ في هذا الكلام ما يجرحُ الحياء؟ ما يُحرج؟ افتح أيّ كتاب فقه، ترى أشياء بأسمائها، العورات بأسمائها، والمواقف والاتصالات واللقاءات بتفصيلاتها, الإنسان قد يستحيي .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾
[سورة النساء الآية: 43]
طفل صغير بمجلس علم يقرأ القرآن:
﴿أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ﴾
لم يفهم من هذه الآية أكثر من أن يلمسَ الإنسانُ امرأة لمسة. بالقرآن في أشياء لطيفة جداً، النبي عليه الصلاة والسلام كيفَ تكلّم؟ رأى أحدَ بناته -فيما أذكر- وعليها ثيابٌ رقيقة, فقال: يا بنيتي, إنَّ هذه الثياب تصفُ حجمَ عظامكِ .
أية كلمةٍ تنتقيها سوف تُثير الغريزة الجنسية, قال:
((يا بنيتي, إنَّ هذه الثياب تصفُ حجمَ عظامكِ))
أيُّ عظمٍ هذا؟ كلمة عظم مُنَفّرّة. هذا الذي تَغزّلَ, وقال: إن سلمى خُلقت من قصبٍ؛ قصبِ السُكّرِ لا عظم الجمل, وإذا قرّبتَ منها بَصلاً, غَلَبَ المِسكُ على ريح البصل, هذا ليس غزلاً, بصل وجمل, فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((يا بنيتي, إنَّ هذه الثياب تصفُ حجمَ عظامكِ))
.
اللسان: تعلّم كيف يكون مُهذّباً؟ كيف تُعلّم أولادكَ التهذيب في الكلام وفي التعبير؟:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ, قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ, وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى, وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى, وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
ما قولكم: إنَّ الله عزّ وجل حيي؟ .
إنَّ الله تعالى حييٌ كريم, يستحيي من عبده إذا بسطَ إليه يديه, أن يردهُما خائبتين.
يستحي الله عزّ وجل .
قال بعضهم: الحياءُ من الحياةِ، علامة حياة القلب: لكَ قلبٌ حي إذاً أنتَ تستحيي، القلبُ ميت إذاً لا تستحيي, الحياءُ من الحياة, قِلةُ الحياة علامةُ موت القلب، كلما كانَ القلبُ أحيا كانَ الحياءُ أتم .
قال الجُنيد رحمه الله تعالى: العلماء أنسب كلمة رحمهم الله تعالى, إذا قلت: رضي الله عنهم بمعنى دعاء, أما بمعنى تقرير هذا لأصحاب النبي وحدهم, لأنَّ الله عزّ وجل قالَ في القرآن الكريم:
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾
[سورة الفتح الآية: 18]
إذا قلت عن عالمِ رضي الله عنه, فالمقصود: أرجو الله أن يرضى عنه, دُعائية, أما إذ قلت عن الصحابي: رضيّ الله عنه, تقريرية, والأَولى أن تقول: رحمه الله تعالى. الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، أَكمَلّ, لأنَّ كلمة رحمه الله تعالى لا توقع في لَبس واضحة, ليسَ صحابيّاً .
تعريف الحياء في رأي الجنيد :
الإمام الجُنيد رحمه الله تعالى قال :
الحياءُ رؤية الآلاء مع رؤية التقصير .
من هاتين الرؤيتين يتوّلدُ في النفس حالةٌ اسمُها :
الحياء .
إذا واحد قدّمَ لكَ شيئاً ثميناً , وأنتَ لم تُقدّم له شيئاً وقابلته , تستحي منه , عَمَلَ لكَ ولائم كثيرة , وزاركَ في البيت , ولا يوجد عندكَ شيء , تجد نفسك مضطرباً محرجاً , تقول له : والله لا تؤاخذنا ، تفسير بسيط من رؤية الفضلِ مع رؤية التقصير, يتولد في الإنسان المؤمن حالةُ اسمها :
الحياء .
فضلُ الله عزّ وجل عميم , والدليل :
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾
[سورة النساء الآية: 113]
والإنسان مهما قدّم لا يستطيع أن يُوفَي. قد يقول أحدكم: هذه الآية:
﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾
[سورة النجم الآية: 37]
ماذا تعني؟ سيدنا إبراهيم حينما ابتلاه الله بالتكليف, وفّى ما عليه، نَفذَّ الأمر، ولم يستطع أن يُكافئ حضرةَ الله عزّ وجل على إحسانه, مستحيل .
إذاً: لا أحد يستطيع أن يَرُدَ الجميلَ إلى الله عزّ وجل, حتى إذا أرادَ ربُكَ إظهارَ فضله عليك, خلقَ الفضلَ ونَسَبهُ إليك, لكنَّ هذا الحياء؛ الفضل عميم والجهد قليل, إذاً: ينشأ حالة اسمُها الحياء، من لوازم هذه الحالة: تركُ القبائح, وتركُ التفريط مع أصحاب الحقوق، ما دام لا تقدر أن تُكافئ خالِقَكَ على إحسانه لك, لا أقلَّ من أن تدعَ ما نهاكَ عنه .
رأي الفضيل بن عياض : قلة الحياء من علامات الشقاء .
الفُضيل بنُ عياض ؛ هذا القاضي الجليل قال :
خمسٌ من علامات الشقاء : القسوة في القلب ، وجمود العين , وقِلة الحياء ، والرغبةُ في الدنيا ، وطولُ الأمل .
هذه خمسُ علاماتٍ من علاماتِ شقاء الإنسان :
قِلةُ حيائه , وقسوة قلبه , وجمودُ عينه , ورغبته الجامحة في الدنيا , وطولُ أمَلِهِ فيها .
وقال السرّيُّ الثقفي : إنَّ الحياءَ والأُنسَ يطرقان القلب , فإن وجدا فيه الزُهدَ والورع أقاما , وإلا ارتحلا .
وقالَ يحيى بنُ مُعاذ : من استحيا من اللهِ مُطيعاً , استحيا الله منهُ وهوَ مذنبٌ .
معنى جميل جداً , أنتَ تُطيع الله تستحي منه, وأنتَ في طاعته, فإذا زُلّت قدمُك، فإذا سَبَقَكَ لِسانُك، فإذا وقعتَ في مُخالفة، عندئذٍ الله عزّ وجل يستحيي مِنكَ أن يُعاقبك .
((عبدي اعرفني في الرخاء أعرفكَ في الشِدة، عبدي كَبِرت سِنك, وضَعُفَ بصرك, وشابَ شعرك, وانحنى ظهرك, فاستحيي منّي, فأنا أستحي مِنك))
أيام تنفعل, أنت تضرب ابنك الصغير, عمره خمس سنوات، كل ما كبر الابن بعد ما تضربهُ تتألم كثيراً, إذا كبر كثيراً يبقى في قلبه ألم لأشهر منك, كلما كبرَ الإنسان أو كبر سنّهُ أو مقامه أو قدرهُ فالعقاب مؤلم، يتضاعف العِقاب، فإنسان شابَ في الإسلام, اللهُ عزّ وجل حيي, يستحي ربُنا عزّ وجل أن يُعذّبَ ذا الشيبةِ المُسلم .
إنَّ الله لَيُباهي الملائكة بالشاب المؤمن , يقول : انظروا عبدي تركَ شهوتهُ من أجلي .
مرةً ثانية : حياء الله عزّ وجل وَضّحهُ العلماءُ , فقالوا : إنه حياءُ كرمٍ , وحياءُ بِرٍ , وحياءُ جودٍ , وحياءُ جلال .
فإنه تباركَ وتعالى حييٌ كريم , يستحي من عبده , إذا رفعَ إليه يديه , أن يَرُدهُما صُفراً , ويستحيي أن يُعّذبَ ذا شيبةٍ شابت في الإسلام .
أقولها مرة ثانية : من كان يستحيي , يستحيي أن يُخالف أنظمة البشر, لِئلا يقع في الخطأ, خالفتَ نظام السير وأوقفكَ, من هو مسؤول عن هذا النِظام؟ وسألكَ: أعطن أوراقك, وأعطن مستندات هذه السيارة, ولماذا خالفت؟ الذي يتمتع بِخُلق الحياء, يستحيي أن يقعَ في المخالفات, حتى في الأنظمة الوضعية, لِئلا يقفَ موقفاً حَرِجاً، لِئلا يصغُر، لِئلا ينكمش .
أوجه الحياء جملة وتفصيلاً :
بعض العلماء قال الحياء على عشرةِ أوجه :
حياءُ جِنايةٍ ، وحياءُ تقصير ، وحياءُ إجلال ، وحياءُ كرم ، وحياءُ حِشمة , وحياءُ استصغار نفس ، وحياءُ محبة ، وحياءُ عبودية ، وحياءُ شرفٍ وعِزّة ، وحياءُ المُستحيي من نفسهِ .
إليكم التفصيلات :
1-حياء الجناية :
فأما حياءُ الجناية : فمنه حياءُ آدمَ عليه السلام , لمّا فرَّ هارباً من الجنة , قالَ تعالى : أفِراراً مني يا آدم ؟ قالَ : لا يا ربي بل حياءً منك .
أيام الإنسان يستحيي أن يواجه إنساناً عظيماً بمخالفة , فهذا ليسَ حياء الهروب , حياء التعظيم ، حياء الجناية .
أحياناً الإنسان يكون له ابن, فيخطىء الابن : أين فلان؟ مختفٍ, إذا كان الابن توارى حياءً , الأب يتسامح حتى لا يُصبح في إحراج ، الابن خاف واستحى بذنبه , هذا حياء الجناية .
2-حياء التقصير :
أما حياءُ التقصير: كحياء الملائكة , الذين يُسبحّونَ الليل والنهارَ ولا يفترون, فإذا كانَ يومُ القيامة, قالوا: سبحانكَ ما عبدناكَ حقَّ عِبادتك, هذا حياء التقصير, النبي عليه الصلاة والسلام جعل عمله الصالح كله، وعملهُ ليسَ في الأرضِ كُلِها منذُ آدم وإلى يوم القيامة, عملٌ أعظمُ من عملِ النبي, رحمةٌ مُهداة، نِعمةٌ مُزجاة، قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
[سورة الأنبياء الآية: 107]
كلُ عملهِ رآه قليلاً, فقالَ عنه: يا ربي إنهُ جِهدُ مُقِل, هذا التواضع, جُهدُ مُقِل عمل النبي، ألفان ومئتا مليون مُسلم في شتى بِقاع الأرض على رُقعةٍ واسعةٍ جداً, هذه دعوة النبي, ومعَ ذلك قال: يا ربي إنهُ جِهدُ مُقِل, هذا حياء التقصير .
3-حياء الاجلال :
حياءُ الإجلال: هو حياءُ المعرفة قدر معرفة العبدِ بربه يكونُ حياؤهُ منه، كلما ارتقت معرفتك ارتقى حياؤك, هذا سماه العلماء الإجلال .
سيدنا النبي لمّا قدّم الوسادة لزيد الخير, قالَ:
((واللهِ إني لا أتكئ في حضرتك))
استحيا أن يتكئ في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام .
النبي عليه الصلاة والسلام وهو نبي هذه الأمة, ما رؤي ماداً رجليهِ قط في حياته بينَ أصحابه .
4-حياء الكرم :
وحياءُ الكرم كحياء النبي من القوم الذينَ دعاهم إلى وليمة زينب, وجلسوا وأطالوا الجلوس, فقامَ واستحيا أن يقول لهم: انصرفوا .
أحياناً يكون يغلي غلياناً, لشدة الارتباطات والأعمال, يأتيه شخص مُحب, يجلس يستمتع بالحديث يأنس, من السهل أن تقول له: انصرف, ولكن على صاحب الحياء صعبةٌ جداً , تراه يتمزق, والتمزق أهونُ عندهُ من أن يصرفهُ, هكذا فعلَ النبي, دعا أصحابه إلى وليمة زينب, جلسوا وأطالوا الجلوس, والنبي في حرجٍ شديد, فاستحيا أن يقول لهم: انصرفوا .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 53]
5- حياء الحشمة :
قال حياءُ الحِشمة : كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه, استحيا أن يسألَ النبي عليه الصلاة والسلام عن المذي, سائل شفاف يخرج قبل المنيّ, هذا يا ترى ينقض الوضوء, يحتاج إلى وضوء أم يحتاج إلى غُسل، سيدنا علي زوج ابنة رسول الله, فاستحيا أن يسألَ أباها وابنتهُ عِندهُ .
العلماء استنبطوا: لا يصح ولا يليق أن تتحدثَ بأمرٍ نسائي أمام والد زوجتك, وأمام أخوتها, ولو كان في تورية.
الإنسان يحكي عن العلاقات الزوجية والأحكام الشرعية بشكل مُهذّب جداً وبشكل راقٍ جداً، لكن إذا كان والد زوجته موجود وأخوات زوجته, الأكمل ألا يتحدث به أبداً, اقتداءً بسيدنا علي بن أبي طالب, الذي استحيا أن يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن المذي, لأنَّ ابنتهُ عِندهُ, لمكان ابنته من رسول الله .
كنت مرة بجلسة في العيد, يتحدث الأخ كلاماً لطيفاً متعلّقاً بالزواج وبالعلاقات الزوجية أمام أخي وزوجته، فأخو زوجته ينتقل إلى صورة, قد يأباها الأخ أو الأب مثلاً, أو قد لا يُحب أن يتخيل ما يجري. فلذلك: من الكمال أن لا تتحدث عن أشياء مباحة, وأشياء مُهذّبة فيها كنايات لطيفة أمام أقرباءِ زوجتك, هذا من الحياء .
6-حياء الاستحقار والاستصغار :
قال: وحياءُ الاستحقار والاستصغار: كحياء العبدِ من ربه عزّ وجل, حين يسألهُ حوائجه, احتقاراً لشأنِ نفسهِ, واستصغاراً لها .
يقولون: أن نور الدين الشهيد رحمه الله, الذي رفعَ اسمَ المسلمين عالياً, والذي قضى على سبعٍة وعشرين جيشاً أوروبيّاً, جاؤوا ليغزوا بلادنا في العصور الوسطى غزو الفِرنجة، يقال: أنه سجد, هكذا قرأت ولا أدري مبلغَ هذا من الصحة, سجد قُبيلَ المعركة الفاصلة, وقال: يا رب, من هو نور الدين حتى تنصرهُ؟ انصر دينك .
يعني: من أنا حتى تنصرني؟ يا رب أنا أحقر من ذلك, انصر دينكَ يا رب, فإذا الإنسان رأى عبوديته, ورأى أنه لا شيء, ما فعلَ شيئاً، ما قدمَ شيئاً، فاستحيا من الله, هذا حياء العبودية لله عزّ وجل .
فسّرَ بعض العلماء هذا الحياء حياء الاستصغار؛ إمّا لتعظيم المسؤول وهو اللهُ عزَ وجل, أو لوقوع السائل ببعض الذنوب, إما السائل مُذنب على استحياء, أو أنَّ المسؤول عظيم جداً .
7-حياء المحبة :
أما حياءُ المحبة : فحياءُ المُحبِّ من محبوبه , حتى إذا خطرَ المحبوب في قلب المُحبِّ في غيبتهِ , هاجَ حُبُهُ , وظهرَ هذا في وجههِ , ولا يُدرى ما سببهُ ؟
8-حياء العبودية :
حياء العبودية : حياءٌ ممتزجٌ من محبةٍ وخوفٍ ومشاهدة .
9-حياء الشرف والعزة :
أما حياء الشرف والعِزّة : إذا الإنسان له مقام كبير, المُعلّم, الأب, في الخمسينات, عنده خمس بنات متزوجات, عنده أصهار, له أولاد شباب, وله أحفاد, يمزح مزحاً ساقطاً, يتلصص على النساء, يُضبط أنه يتلصص، مُراهقةُ في سِنٍ متأخر, كما قال الله عزّ وجل:
((وأبغضُ العصاة وبُغضي للشيخ العاصي أشد))
من دخلَ الأربعين دخلَ في أسواق الآخرة .
سن الأربعين سن التقوى والصلاح, سن الإنابة والقرآن والحفظ والتهيئةَ, رحلة: ستة أيام يُلهو؛ سبت أحد اثنين ثلاثاء يوم الأربعاء, تجده يُخطط للعودة, كيف نعود بالسيارة العامة أو الخاصة بالقطار؟ إذا كان عمر المرء ستين، إذا كانت الستين ستة أيام، أول عشر سنوات السبت, وثاني عشر سنوات الأحد, والثالثة 30 الاثنين, والرابعة الثلاثاء، والخامسة الأربعاء، خامس مرحلة, من دخلَ الأربعين دخلَ في أسواق الآخرة .
فإذا إنسان له مقام , له عمل في الجامعة ، أب راقٍ ، صاحب معمل ، مدير مستشفى , لا يليق به أن يقرأ موضوعاً سخيفاً , أو يتواجد عنده مجلة من نوع معين, أو يمزح مزحاً معيناً, أو يرتكب حماقة معينة, هذا لا يليق بالإنسان العادي, فكيفَ بالمؤمن؟ .
10-حياء المرء من نفسه :
حياءُ المرءِ من نفسهِ : هو حياء النفس الشريفة , هذا أرقى أنواع الحياء ، وأنتَ وحدكَ في البيت .
أحياناً الإنسان إذا رأى نفسه كريمةً عفيفةً شريفةً صادقةً, رِضاؤهُ عن نفسهِ يُسعدهُ، إذا الإنسان ارتكب حماقة فيما بينه وبينَ نفسهِ, ولا أحدَ على وجه الأرض اطلّعَ عليها, يكفيه ألماً أنه احتقرَ ذاتهُ. فلذلك الإنسان الشريف يسعى إلى أن يرضى عن نفسهِ، إذا رضي عن نفسهِ شعرَ باعتزازِ إنسانيته .
قال العلماء: إذا استحيا الإنسان من نفسهِ, فاستحياؤهُ من غيرهِ من باب أَولى.
أنواع الحياء :
1-حياء الرقابة :
أحدُ أنواع الحياء المُهمة حياءُ الرقابة : وهو حياءٌ يتولّدُ من عِلمِ العبدِ بنظر الحقِّ إليه .
مرة دخلت إلى محل تجاري -القصة قديمة-, وجدت شاشة تلفزيونية بالمحل, وعلى الشاشة شاب على طاولة, يكتب في دفاتر محاسبة, فعلمت أنَّ صاحب المحل التجاري في الطابق العلوي, عنده محاسب, فلا أدري لماذا فعلَ هذا؟ لكن وضع فوقَ هذا المحاسب آلة تصوير تلفزيونية, وعندهُ في المكتب هذه الشاشة, تُريه ما يفعلُ هذا المُحاسب, في ثماني ساعات. قلت: هذا المحاسب ما دام مُراقباً ثماني ساعات مستمرة، كل حركاته وسكناته محسوبة، كلما نظرَ صاحب المحل رآه ماذا يعمل؟ تصور نفسك مُراقباً أربعاً وعشرين ساعة.
بعض مدراء المدارس غلط غلطة كبيرة, ووضع بكل صف جهاز لاقط، أحبَّ أن يسمع كل أستاذ ماذا يتكلّم؟ فأصبح الموقف حرجاً. كل أستاذ له أحواله مع الطُلاب؛ أحدهم نزع الجهاز، الثاني قطع الشريط .
على كُلٍ؛ المراقبة المستمرة صعبة جداً, لكن ربنا لطيف, مع أنه معك دائماً ويُراقبك, لكن لا تشعر بثِقل المُراقبة, هذا أحد أنواع الحياء, حياءٌ يتولد من علم العبدِ بنظر الحقِ إليه, لذلك يستقبح كلُ جناية, وتحلو له كلُّ مجاهدة، يستقبح الجِناية وتحلو له المجاهدة في سبيل الله ، لأنَّ الله عزّ وجل يُراقبك ويسكت عن الشكوى .
متى يبتعد العبد عن حال المراقبة؟ :
الذي يشتكي كثيراً بعيد عن حال المراقبة, لأنه قال له: ألك حاجة؟ قال له: مِنك؟ قال : لا, من الله، قال له: عِلمهُ بحالي يُغني عن سؤالي .
إذا الإنسان شعر أنَّ الله يُراقبه يسكت لسانه, ماذا يتكلّم؟ قال له: عبدي كُن لي كما أُريد ولا تُعلمني بما يُصلُحك .
لا تُكلّف نفسكَ أن تتكلم بما تحتاج, أنا أعرفُ كُلَّ حاجاتك، أعرفُ كلَّ رغباتك، أعرفُ كلَّ ما يُزعجك، أعرف كُلَّ ما يؤلِمك، كُن لي كما أُريد ولا تُعلمني بما يُصلُحك .
قال: هذا حياءُ المراقبة, يحمل صاحبهُ على المجاهدة, ويُحملهُ على استقباح الجناية, ويجعلهُ يسكت.
عِلمهُ بحالي يُغني عن سُؤالي.
أرقى أنواع المراقبة: أن يخشى المُحِبُّ إذا فعلَ مخالفةً أن ينقطعَ عن محبوبه، هذا الخوف الذي قال عنه النبي: رأسُ الحِكمة مخافة الله. لا خوفَ عِقابهِ بل خوفَ البُعدِ عنه .
2-الشعور أن الله معك :
من أرقى أنواع الحياء : الشعور أنَّ الله معك، كلكم يعلم أنَّ مَعِيّةَ الله نوعان: مَعِيّةٌ عامة وهي مَعِيّةُ العِلم الإلهي:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
[سورة الحديد الآية: 4]
والمَعِيّةُ الخاصة: مَعِيّةُ الحِفظِ والتأييدِ والنصرِ والإكرام. قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾
[سورة النحل الآية: 128]
أما :
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
هذه مَعِيّةٌ عامة ، اللهُ مع كلِّ إنسان , حتى معَ العُصاة ، حتى معَ المُنحرفين , لكن إذا قال :
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾
[سورة المائدة الآية: 12]
قال: هذه مَعِيّةٌ خاصة, مَعِيّةُ الرعاية والحِفظِ والنصرِ والتأييد.
3-القرب :
القُرب أكّدهُ القرآن الكريم, فقالَ الله عزّ وجل:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 186]
إني قريب, القُرب أن تُحس أنَّ الله معك, أو أنَّ الله قريبٌ مِنك, هذا شعور من لوازم الإيمان، ولا تأتي معصية إلا إذا أحسست أنَّ الله لا يراك, أو أنَّ الله بعيدٌ عنك .
على كُلٍ؛ بعضُ أهلِ القلوب لهم وقفاتُ طويلة عندَ ما يُسمى بِحال المراقبة، حال المُراقبة أن تشعر دائماً أنَّ الله يُراقبك، وأنه مُطلّعٌ على سريرتك وعلى علانيتك، وعلى حركاتك وعلى سكناتك، وعلى أقوالك وعلى كُلِّ ما يَصدرُ عنك, هذا الشعور وحده يكفي أن تستقيمَ على أمره, ويؤكّدُ هذا: أنكَ إذا عَلِمتَ أنَّ الله يعلم ما تفعل:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾
[سورة الشعراء الآية: 213]
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾
يعني: هذا هو الإيمان؛ أن تعبدَ الله كأنكَ تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك، إما أن تراه أو هو يراك .
قال تعالى :
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾
[سورة العلق الآية: 14]
أحدنا إذا اكتشفَ أنه حينما فعلَ هذا الفِعل كانَ فُلانٌ يراه، إن كانَ هذا الفِعلُ شنيعاً يذوبُ كما تذوبُ الشمعةُ المُشتعلة، فما بالك إذا كانَ خالِقُ الكون ربُّ العالمين الذي منحكَ الحياة يراكَ في تقلّبك؟ .
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾
[سورة الشعراء الآية: 213-218]
يراكَ في فِراشِكَ، يراكَ في بيتكَ، يراكَ في خلوتك، يراكَ في جلوتك، يراكَ في أثناء بيعك، يراكَ في حديثك .
أساسُ الحياء :
أنَّ الله يرى , لذلك الآية الأولى في موضوع الحياء :
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾
قبل هذه الآية :
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾
[سورة العلق الآية: 9-14]
مواقفك، نصائحك، إرشاداتك, ما تُبطن وما تٌعلن:
﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾
هذه أول آية .
الآية الثانية : إن الله كان عليكم رقيبا ....
آية أخرى في الحياء ، هذه الآياتُ وحدها تكفي الإنسان :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾
[سورة النساء الآية: 1]
أنتَ تحتَ المراقبة, ويا ليتك تشعر حينما تشعر أنكَ تحتَ المراقبة كيف تكون؟ ليتكَ توازن نفسكَ, حينما تشعر أنَّ إنساناً يُراقُبك, وبيده حولٌ وطور, وبإمكانه أن يفعلَ معكَ ما يفعل, إذا شعرتَ أنه يُراقبُك, وأنكَ تحتَ مُراقبته, كيفَ تنضبط؟ كيفَ تستحيي؟ يقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
يعني إذا قرأت أنَّ هذا الطريق مُراقب بالرادار, هل تُسرع؟ إذا أسرعت, تُلتقطُ صورةٌ لمركبتك, وتُحاسبُ حِساباً عسيراً، إذا دخلتَ إلى مكان للبيع, وقرأتَ أنَّ هذه الصالة مُراقبة تلفزيونياً, كيف تتحرك؟ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
هذه أمثلة للتوضيح ولله المَثلُ الأعلى .
يعني: الإنسان إذا كان أمام شخص من أسرته, عالي الشأن, رفيع المقام، أخلاقي، له شأنه في الحياة، إذا دخلَ عليكَ البيت, كيفَ تستقبله: بثياب متبذلة؟ كيفَ تُحدّثه: ترفعُ صوتكَ أمامه؟ تُلقي عليه كلاماً سخيفاً بذيئاً فاحشاً؟ هذا إنسان من لحمٍ ودم من طينتك .
الآية الثالثة : يعلم خائنة الأعين ....
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
[سورة غافر الآية: 19]
لو أنكَ في غُرفتكَ وحدك, وغرفة جيرانك مفتوحة النوافذ, ووقفت امرأة على هذه النافذة, لا يستطيعُ رجلٌ في الأرض أن يُحاسبك, ولا أن يكتشفَ أنكَ تنظرُ إليها، إذا خانت العين ونظرت، من يعلم؟ الله سبحانه وتعالى:
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
هذه الآيات ، أما الأحاديث :
الأحاديث التي تتحدث عن الحياء .
الحديث الأول : الحياء من الإيمان ....
أما الأحاديث : في الحديث الصحيح من حديثِ ابنِ عمرَ رضيَ الله عنهما: عَنْ سَالِمِ بْنِ عبد الله, عَنْ أَبِيهِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ, وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
حديثٌ نعرفهُ جميعاً, ولكن لو وقفنا عنده وقفةً متأنية, لكشفنا العجبَ العُجاب، هَُ خُلُقٌ يُعدُ من لوازم الإيمان, فمن لم يكن مؤمناً, لا يمكن أن يكونَ متحليّاً بهذا الخُلُق .
هناك خُلق إذا توافرَ لا بدَّ من أن يكونَ الإنسان عديم الإيمان .
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ))
[أخرجه الإمام أحمد في مسنده]
فإذا كّذّبَ أو خان ليس مؤمناً، المؤمن لا يكذب، إن كانَ حييّاً فهو قطعاً مؤمنٌ, لأنَّ الحياء لا يكون إلا عن إيمان الخُلُق, الذي يؤكدُ وجوده عِندَ الإيمان هو الحياء، والخُلُق الذي ننفي معه الإيمان الكذب والخيانة, لذلك قال عليه الصلاة والسلام توفيراً للوقت والجهد: دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ "
لو كانَ مؤمناً لكانَ حييّاً, ما دام لا يستحيي, إذاً: ليسَ مؤمناً، والحياءُ من الإيمان .
الحديث الثاني : الحياء لا يأتي إلا بخير ....
عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ ))
فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ : مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ : إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا , وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً .
كيفما تحركت الحياء يُقدّمُ لكَ كلَّ خير، تستحيي أن تعصي الله لأنه يُراقبك، تستحيي أن تؤذي الناس لأنَّ الله يُراقبك، تستحيي أن تأخذَ ما ليسَ لك لأنَّ الله معك، الحياءُ لا يأتي إلا بخير.
الحديث الثالث : الحياء شعبة من الإيمان ....
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً, فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيق,ِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))
أعطاك النبي أعلى درجات الإيمان : أن توّحدَ الله عزّ وجل ، أن ترى يدَ الله وحدها تعمل في الكون، أن ترى أنهُ لا إله إلا الله هذه أعلاها، التوحيد نهاية العِلم, إذا وحّدت حُلّت كلُّ مشكلاتك, لأنَّ كلَّ علاقاتك أصبحت مع جِهةٍ واحدة وهي الله, فإذا جمعتَ كلَّ العلاقات مع جِهةٍ واحدة استرحتَ وأرحت، لذلك نهاية المطاف أن تُوّحدَ الله عزّ وجل، نهاية النهاية أن تكونَ موّحداً، وأكثر المؤمنين يقعون في الشِرك الخفيّ, بدليل قول الله عزّ وجل:
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
[سورة يوسف الآية: 106]
هنا في هذه الآية, تعني كلمة مشركون: أي الشِركَ الخفيّ وليسَ الجلي, هذا أعلى مرتبة، وأدناها: أن تقوم بعمل صالح بسيط: أن تُميطَ الأذى عن الطريق, أن تُزيحَ حجراً من طريق الناس، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان .
الإيمان اعتقاد, والإيمان سلوك, والإيمان خُلُق، أن تُميطَ الأذى سلوك، أن تستحيي من الله خُلُق، أن تعتقدَ أنه لا إله إلا الله عِلم.
الإيمان أخذ منحى علمياً، منحى سلوكياً، منحى خُلقياً .
في الحياء :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ :
((كَانَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا, فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ, عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
كان يستحيي , وجّهَ امرأة مرةً , وقال :
((أيتها المرأة, خُذي فِرصةً ممسكةً تتبعي بها أثرَ الدم, فقالت: يا رسول الله! كيف أتتبعُ بها أثرَ الدم؟ يروي أصحابهُ أنه علت وجهه حُمرة -حُمرة الحياء- وارتبك النبي عليه الصلاة والسلام, وقالَ: يا سبحان الله! تطهرينَ بها -يعني ليسَ في إمكانه أن يعطي مزيداً من التفصيلات- فأخذتها السيدة عائشة جانباً, وعلّمتها كيفَ تطهرُ بها))
كانَ حيياً .
هذا الذي لا يستحيي , له نظراتٌ وقحة، له عِباراتٌ بذيئة، له سلوكٌ جافٍ ، هذا الذي يُحرج الناس يوقعهم في الحرج، يُحمّرٌ وجوههم، يتلذذ برؤية وجوههم وهم يرتبكون, هذا ليسَ مؤمناً، المؤمن يستحيي, ويستحيي أن يوقعَ أحداً في الحرج .
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((لا تُحمّروا الوجوه))
لا تتكلم كلمة تجعل أخاكَ يضطرب، تجعل أخاكَ يرتبك، تجعل أخاكَ يحمّرُ وجهه خجلاً، لقد أسأت إليه .
كلكم يعلم : أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما كانَ مدعواً مع أصحابه إلى وليمة, صلّوا جميعاً الظهر, وتناولوا طعام الغداء, وكانَ لحمَ جزور, صدرت رائحةً من أحدهم, وأذّنَ العصر-وهذا الواحد يجب أن يقوم ليتوضأ, وأنا أظن يتمنى أن يغور في باطن الأرض، وأن لا يفُتضحُ أمام الناس، ماذا فعلَ النبي؟-, قال:
((كلُّ من أكلَ لحمَ جذور فليتوضأ, قالوا: يا رسول الله! كُلنا أكلنا هذا اللحم, قالَ: كلكم فليتوضأ))
أرادَ ألا يُحرجَ هذا الإنسان، أرادَ ألا يُخذِله، أرادَ ألا يُربِكهُ، أرادَ ألا يجعله في وضعٍ حرج .
كانَ أشدَ حياءً من العذراءِ في خِدرها, فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناهُ في وجهه .
وفي الصحيح: حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ:
((قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ, إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ))
لهذا الحديث تأويلات: التأويل الأول وهو ضعيف, يعني إذا فعلتَ فِعلاً, أو إذا أقدمتَ على فعلٍ مُباحٍ مشروعٍ, لا يُستحى منه عادةً فاصنعه، إذا أردتَ أن تشتري لأهلكَ طعاماً, وأنتَ عالي الشأن, هذا عمل مشروع وشريف, وهو وسام شرف, ومن حملَ حاجته بيده بَرِئ من الكِبر، فإذا كانَ هذا الأمر مشروعاً فافعله, هذا المعنى ضعيف, ولكن المعنى الشائع الذي أقرّهُ جمهور العلماء: أنكَ إذا فقدتَ الحياء فاصنع ما تشاء, عندئذٍ فقدتَ مقومات الأدب، فقدتَ مقومات الخُلُق، هذا فافعل ما تشاء أو فاصنع ما تشاء, هذا أمرُ تهديد .
الحديث الرابع : استحيوا من الله حق الحياء ....
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ, قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ, وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى, وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى, وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
ربنا عزّ وجل قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 102]
هذه غير اتقوا الله، طالَبَكَ النبي بكمال التقوى، وإذا قال الله عز وجل:
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾
[سورة الحج الآية: 78]
لم يطالَبَكَ بالجِهاد بأصل الجِهاد، طالَبَكَ بكمال الجِهاد. يعني: أنتَ مأمور بالتقوى وبِحقِّ التقوى, أيّ بكمال التقوى, ومأمورٌ بالجهاد وبكمال الجهاد, ومأمور بالحياء وبكمال الحياء.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ, قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ, وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى, وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى, وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
ليسَ هذا الحياء المُتعارف بين الناس، ليس هذا الحد الأدنى من الحياء، يوجد بالرأس عين, هذه العين: هل تستحي؟ هل تَغُضُ بصرها عن محارم الله، أم تتبعُ بِها عورات المُسلمين ؟ هل تنظر بكتاب أخيك بفضول ماذا يكتب؟ هل وجدتَ في الغرفة كتاباً أو دفتراً وفتحته وتأملتهُ بفضول؟ هذا ليسَ من الحياء, الدفتر ليسَ لكَ، المحفظة ليست لكَ, لماذا فتحتها؟ مكتبٌ ليسَ لكَ, لماذا جلستَ وراءهُ وفتحتَ الدروج؟ .
((أن تحفظَ الرأس وما وعى))
العين، الأذن إذا استمعت إلى مزاحٍ رخيص جنسي, هل تطرب له, أم تشمئزُّ منه, أم تقوم عن هذا المجلس, فلا تقعد بعدَ الذكرى؟ الأذن, العين, اللسان, هل جرى لِسانُكَ بكلماتٍ بذيئة، كلماتٍ فاحشة؟ تعلّم من كتاب الله كيفَ يكون الأدب؟:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 5-7]
هل تشعر أنَّ في هذا الكلام ما يجرحُ الحياء؟ ما يُحرج؟ افتح أيّ كتاب فقه، ترى أشياء بأسمائها، العورات بأسمائها، والمواقف والاتصالات واللقاءات بتفصيلاتها, الإنسان قد يستحيي .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾
[سورة النساء الآية: 43]
طفل صغير بمجلس علم يقرأ القرآن:
﴿أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ﴾
لم يفهم من هذه الآية أكثر من أن يلمسَ الإنسانُ امرأة لمسة. بالقرآن في أشياء لطيفة جداً، النبي عليه الصلاة والسلام كيفَ تكلّم؟ رأى أحدَ بناته -فيما أذكر- وعليها ثيابٌ رقيقة, فقال: يا بنيتي, إنَّ هذه الثياب تصفُ حجمَ عظامكِ .
أية كلمةٍ تنتقيها سوف تُثير الغريزة الجنسية, قال:
((يا بنيتي, إنَّ هذه الثياب تصفُ حجمَ عظامكِ))
أيُّ عظمٍ هذا؟ كلمة عظم مُنَفّرّة. هذا الذي تَغزّلَ, وقال: إن سلمى خُلقت من قصبٍ؛ قصبِ السُكّرِ لا عظم الجمل, وإذا قرّبتَ منها بَصلاً, غَلَبَ المِسكُ على ريح البصل, هذا ليس غزلاً, بصل وجمل, فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((يا بنيتي, إنَّ هذه الثياب تصفُ حجمَ عظامكِ))
.
اللسان: تعلّم كيف يكون مُهذّباً؟ كيف تُعلّم أولادكَ التهذيب في الكلام وفي التعبير؟:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ, قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ, وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى, وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى, وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
ما قولكم: إنَّ الله عزّ وجل حيي؟ .
إنَّ الله تعالى حييٌ كريم, يستحيي من عبده إذا بسطَ إليه يديه, أن يردهُما خائبتين.
يستحي الله عزّ وجل .
قال بعضهم: الحياءُ من الحياةِ، علامة حياة القلب: لكَ قلبٌ حي إذاً أنتَ تستحيي، القلبُ ميت إذاً لا تستحيي, الحياءُ من الحياة, قِلةُ الحياة علامةُ موت القلب، كلما كانَ القلبُ أحيا كانَ الحياءُ أتم .
قال الجُنيد رحمه الله تعالى: العلماء أنسب كلمة رحمهم الله تعالى, إذا قلت: رضي الله عنهم بمعنى دعاء, أما بمعنى تقرير هذا لأصحاب النبي وحدهم, لأنَّ الله عزّ وجل قالَ في القرآن الكريم:
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾
[سورة الفتح الآية: 18]
إذا قلت عن عالمِ رضي الله عنه, فالمقصود: أرجو الله أن يرضى عنه, دُعائية, أما إذ قلت عن الصحابي: رضيّ الله عنه, تقريرية, والأَولى أن تقول: رحمه الله تعالى. الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، أَكمَلّ, لأنَّ كلمة رحمه الله تعالى لا توقع في لَبس واضحة, ليسَ صحابيّاً .
تعريف الحياء في رأي الجنيد :
الإمام الجُنيد رحمه الله تعالى قال :
الحياءُ رؤية الآلاء مع رؤية التقصير .
من هاتين الرؤيتين يتوّلدُ في النفس حالةٌ اسمُها :
الحياء .
إذا واحد قدّمَ لكَ شيئاً ثميناً , وأنتَ لم تُقدّم له شيئاً وقابلته , تستحي منه , عَمَلَ لكَ ولائم كثيرة , وزاركَ في البيت , ولا يوجد عندكَ شيء , تجد نفسك مضطرباً محرجاً , تقول له : والله لا تؤاخذنا ، تفسير بسيط من رؤية الفضلِ مع رؤية التقصير, يتولد في الإنسان المؤمن حالةُ اسمها :
الحياء .
فضلُ الله عزّ وجل عميم , والدليل :
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾
[سورة النساء الآية: 113]
والإنسان مهما قدّم لا يستطيع أن يُوفَي. قد يقول أحدكم: هذه الآية:
﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾
[سورة النجم الآية: 37]
ماذا تعني؟ سيدنا إبراهيم حينما ابتلاه الله بالتكليف, وفّى ما عليه، نَفذَّ الأمر، ولم يستطع أن يُكافئ حضرةَ الله عزّ وجل على إحسانه, مستحيل .
إذاً: لا أحد يستطيع أن يَرُدَ الجميلَ إلى الله عزّ وجل, حتى إذا أرادَ ربُكَ إظهارَ فضله عليك, خلقَ الفضلَ ونَسَبهُ إليك, لكنَّ هذا الحياء؛ الفضل عميم والجهد قليل, إذاً: ينشأ حالة اسمُها الحياء، من لوازم هذه الحالة: تركُ القبائح, وتركُ التفريط مع أصحاب الحقوق، ما دام لا تقدر أن تُكافئ خالِقَكَ على إحسانه لك, لا أقلَّ من أن تدعَ ما نهاكَ عنه .
رأي الفضيل بن عياض : قلة الحياء من علامات الشقاء .
الفُضيل بنُ عياض ؛ هذا القاضي الجليل قال :
خمسٌ من علامات الشقاء : القسوة في القلب ، وجمود العين , وقِلة الحياء ، والرغبةُ في الدنيا ، وطولُ الأمل .
هذه خمسُ علاماتٍ من علاماتِ شقاء الإنسان :
قِلةُ حيائه , وقسوة قلبه , وجمودُ عينه , ورغبته الجامحة في الدنيا , وطولُ أمَلِهِ فيها .
وقال السرّيُّ الثقفي : إنَّ الحياءَ والأُنسَ يطرقان القلب , فإن وجدا فيه الزُهدَ والورع أقاما , وإلا ارتحلا .
وقالَ يحيى بنُ مُعاذ : من استحيا من اللهِ مُطيعاً , استحيا الله منهُ وهوَ مذنبٌ .
معنى جميل جداً , أنتَ تُطيع الله تستحي منه, وأنتَ في طاعته, فإذا زُلّت قدمُك، فإذا سَبَقَكَ لِسانُك، فإذا وقعتَ في مُخالفة، عندئذٍ الله عزّ وجل يستحيي مِنكَ أن يُعاقبك .
((عبدي اعرفني في الرخاء أعرفكَ في الشِدة، عبدي كَبِرت سِنك, وضَعُفَ بصرك, وشابَ شعرك, وانحنى ظهرك, فاستحيي منّي, فأنا أستحي مِنك))
أيام تنفعل, أنت تضرب ابنك الصغير, عمره خمس سنوات، كل ما كبر الابن بعد ما تضربهُ تتألم كثيراً, إذا كبر كثيراً يبقى في قلبه ألم لأشهر منك, كلما كبرَ الإنسان أو كبر سنّهُ أو مقامه أو قدرهُ فالعقاب مؤلم، يتضاعف العِقاب، فإنسان شابَ في الإسلام, اللهُ عزّ وجل حيي, يستحي ربُنا عزّ وجل أن يُعذّبَ ذا الشيبةِ المُسلم .
إنَّ الله لَيُباهي الملائكة بالشاب المؤمن , يقول : انظروا عبدي تركَ شهوتهُ من أجلي .
مرةً ثانية : حياء الله عزّ وجل وَضّحهُ العلماءُ , فقالوا : إنه حياءُ كرمٍ , وحياءُ بِرٍ , وحياءُ جودٍ , وحياءُ جلال .
فإنه تباركَ وتعالى حييٌ كريم , يستحي من عبده , إذا رفعَ إليه يديه , أن يَرُدهُما صُفراً , ويستحيي أن يُعّذبَ ذا شيبةٍ شابت في الإسلام .
أقولها مرة ثانية : من كان يستحيي , يستحيي أن يُخالف أنظمة البشر, لِئلا يقع في الخطأ, خالفتَ نظام السير وأوقفكَ, من هو مسؤول عن هذا النِظام؟ وسألكَ: أعطن أوراقك, وأعطن مستندات هذه السيارة, ولماذا خالفت؟ الذي يتمتع بِخُلق الحياء, يستحيي أن يقعَ في المخالفات, حتى في الأنظمة الوضعية, لِئلا يقفَ موقفاً حَرِجاً، لِئلا يصغُر، لِئلا ينكمش .
أوجه الحياء جملة وتفصيلاً :
بعض العلماء قال الحياء على عشرةِ أوجه :
حياءُ جِنايةٍ ، وحياءُ تقصير ، وحياءُ إجلال ، وحياءُ كرم ، وحياءُ حِشمة , وحياءُ استصغار نفس ، وحياءُ محبة ، وحياءُ عبودية ، وحياءُ شرفٍ وعِزّة ، وحياءُ المُستحيي من نفسهِ .
إليكم التفصيلات :
1-حياء الجناية :
فأما حياءُ الجناية : فمنه حياءُ آدمَ عليه السلام , لمّا فرَّ هارباً من الجنة , قالَ تعالى : أفِراراً مني يا آدم ؟ قالَ : لا يا ربي بل حياءً منك .
أيام الإنسان يستحيي أن يواجه إنساناً عظيماً بمخالفة , فهذا ليسَ حياء الهروب , حياء التعظيم ، حياء الجناية .
أحياناً الإنسان يكون له ابن, فيخطىء الابن : أين فلان؟ مختفٍ, إذا كان الابن توارى حياءً , الأب يتسامح حتى لا يُصبح في إحراج ، الابن خاف واستحى بذنبه , هذا حياء الجناية .
2-حياء التقصير :
أما حياءُ التقصير: كحياء الملائكة , الذين يُسبحّونَ الليل والنهارَ ولا يفترون, فإذا كانَ يومُ القيامة, قالوا: سبحانكَ ما عبدناكَ حقَّ عِبادتك, هذا حياء التقصير, النبي عليه الصلاة والسلام جعل عمله الصالح كله، وعملهُ ليسَ في الأرضِ كُلِها منذُ آدم وإلى يوم القيامة, عملٌ أعظمُ من عملِ النبي, رحمةٌ مُهداة، نِعمةٌ مُزجاة، قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
[سورة الأنبياء الآية: 107]
كلُ عملهِ رآه قليلاً, فقالَ عنه: يا ربي إنهُ جِهدُ مُقِل, هذا التواضع, جُهدُ مُقِل عمل النبي، ألفان ومئتا مليون مُسلم في شتى بِقاع الأرض على رُقعةٍ واسعةٍ جداً, هذه دعوة النبي, ومعَ ذلك قال: يا ربي إنهُ جِهدُ مُقِل, هذا حياء التقصير .
3-حياء الاجلال :
حياءُ الإجلال: هو حياءُ المعرفة قدر معرفة العبدِ بربه يكونُ حياؤهُ منه، كلما ارتقت معرفتك ارتقى حياؤك, هذا سماه العلماء الإجلال .
سيدنا النبي لمّا قدّم الوسادة لزيد الخير, قالَ:
((واللهِ إني لا أتكئ في حضرتك))
استحيا أن يتكئ في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام .
النبي عليه الصلاة والسلام وهو نبي هذه الأمة, ما رؤي ماداً رجليهِ قط في حياته بينَ أصحابه .
4-حياء الكرم :
وحياءُ الكرم كحياء النبي من القوم الذينَ دعاهم إلى وليمة زينب, وجلسوا وأطالوا الجلوس, فقامَ واستحيا أن يقول لهم: انصرفوا .
أحياناً يكون يغلي غلياناً, لشدة الارتباطات والأعمال, يأتيه شخص مُحب, يجلس يستمتع بالحديث يأنس, من السهل أن تقول له: انصرف, ولكن على صاحب الحياء صعبةٌ جداً , تراه يتمزق, والتمزق أهونُ عندهُ من أن يصرفهُ, هكذا فعلَ النبي, دعا أصحابه إلى وليمة زينب, جلسوا وأطالوا الجلوس, والنبي في حرجٍ شديد, فاستحيا أن يقول لهم: انصرفوا .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 53]
5- حياء الحشمة :
قال حياءُ الحِشمة : كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه, استحيا أن يسألَ النبي عليه الصلاة والسلام عن المذي, سائل شفاف يخرج قبل المنيّ, هذا يا ترى ينقض الوضوء, يحتاج إلى وضوء أم يحتاج إلى غُسل، سيدنا علي زوج ابنة رسول الله, فاستحيا أن يسألَ أباها وابنتهُ عِندهُ .
العلماء استنبطوا: لا يصح ولا يليق أن تتحدثَ بأمرٍ نسائي أمام والد زوجتك, وأمام أخوتها, ولو كان في تورية.
الإنسان يحكي عن العلاقات الزوجية والأحكام الشرعية بشكل مُهذّب جداً وبشكل راقٍ جداً، لكن إذا كان والد زوجته موجود وأخوات زوجته, الأكمل ألا يتحدث به أبداً, اقتداءً بسيدنا علي بن أبي طالب, الذي استحيا أن يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن المذي, لأنَّ ابنتهُ عِندهُ, لمكان ابنته من رسول الله .
كنت مرة بجلسة في العيد, يتحدث الأخ كلاماً لطيفاً متعلّقاً بالزواج وبالعلاقات الزوجية أمام أخي وزوجته، فأخو زوجته ينتقل إلى صورة, قد يأباها الأخ أو الأب مثلاً, أو قد لا يُحب أن يتخيل ما يجري. فلذلك: من الكمال أن لا تتحدث عن أشياء مباحة, وأشياء مُهذّبة فيها كنايات لطيفة أمام أقرباءِ زوجتك, هذا من الحياء .
6-حياء الاستحقار والاستصغار :
قال: وحياءُ الاستحقار والاستصغار: كحياء العبدِ من ربه عزّ وجل, حين يسألهُ حوائجه, احتقاراً لشأنِ نفسهِ, واستصغاراً لها .
يقولون: أن نور الدين الشهيد رحمه الله, الذي رفعَ اسمَ المسلمين عالياً, والذي قضى على سبعٍة وعشرين جيشاً أوروبيّاً, جاؤوا ليغزوا بلادنا في العصور الوسطى غزو الفِرنجة، يقال: أنه سجد, هكذا قرأت ولا أدري مبلغَ هذا من الصحة, سجد قُبيلَ المعركة الفاصلة, وقال: يا رب, من هو نور الدين حتى تنصرهُ؟ انصر دينك .
يعني: من أنا حتى تنصرني؟ يا رب أنا أحقر من ذلك, انصر دينكَ يا رب, فإذا الإنسان رأى عبوديته, ورأى أنه لا شيء, ما فعلَ شيئاً، ما قدمَ شيئاً، فاستحيا من الله, هذا حياء العبودية لله عزّ وجل .
فسّرَ بعض العلماء هذا الحياء حياء الاستصغار؛ إمّا لتعظيم المسؤول وهو اللهُ عزَ وجل, أو لوقوع السائل ببعض الذنوب, إما السائل مُذنب على استحياء, أو أنَّ المسؤول عظيم جداً .
7-حياء المحبة :
أما حياءُ المحبة : فحياءُ المُحبِّ من محبوبه , حتى إذا خطرَ المحبوب في قلب المُحبِّ في غيبتهِ , هاجَ حُبُهُ , وظهرَ هذا في وجههِ , ولا يُدرى ما سببهُ ؟
8-حياء العبودية :
حياء العبودية : حياءٌ ممتزجٌ من محبةٍ وخوفٍ ومشاهدة .
9-حياء الشرف والعزة :
أما حياء الشرف والعِزّة : إذا الإنسان له مقام كبير, المُعلّم, الأب, في الخمسينات, عنده خمس بنات متزوجات, عنده أصهار, له أولاد شباب, وله أحفاد, يمزح مزحاً ساقطاً, يتلصص على النساء, يُضبط أنه يتلصص، مُراهقةُ في سِنٍ متأخر, كما قال الله عزّ وجل:
((وأبغضُ العصاة وبُغضي للشيخ العاصي أشد))
من دخلَ الأربعين دخلَ في أسواق الآخرة .
سن الأربعين سن التقوى والصلاح, سن الإنابة والقرآن والحفظ والتهيئةَ, رحلة: ستة أيام يُلهو؛ سبت أحد اثنين ثلاثاء يوم الأربعاء, تجده يُخطط للعودة, كيف نعود بالسيارة العامة أو الخاصة بالقطار؟ إذا كان عمر المرء ستين، إذا كانت الستين ستة أيام، أول عشر سنوات السبت, وثاني عشر سنوات الأحد, والثالثة 30 الاثنين, والرابعة الثلاثاء، والخامسة الأربعاء، خامس مرحلة, من دخلَ الأربعين دخلَ في أسواق الآخرة .
فإذا إنسان له مقام , له عمل في الجامعة ، أب راقٍ ، صاحب معمل ، مدير مستشفى , لا يليق به أن يقرأ موضوعاً سخيفاً , أو يتواجد عنده مجلة من نوع معين, أو يمزح مزحاً معيناً, أو يرتكب حماقة معينة, هذا لا يليق بالإنسان العادي, فكيفَ بالمؤمن؟ .
10-حياء المرء من نفسه :
حياءُ المرءِ من نفسهِ : هو حياء النفس الشريفة , هذا أرقى أنواع الحياء ، وأنتَ وحدكَ في البيت .
أحياناً الإنسان إذا رأى نفسه كريمةً عفيفةً شريفةً صادقةً, رِضاؤهُ عن نفسهِ يُسعدهُ، إذا الإنسان ارتكب حماقة فيما بينه وبينَ نفسهِ, ولا أحدَ على وجه الأرض اطلّعَ عليها, يكفيه ألماً أنه احتقرَ ذاتهُ. فلذلك الإنسان الشريف يسعى إلى أن يرضى عن نفسهِ، إذا رضي عن نفسهِ شعرَ باعتزازِ إنسانيته .
قال العلماء: إذا استحيا الإنسان من نفسهِ, فاستحياؤهُ من غيرهِ من باب أَولى.
أنواع الحياء :
1-حياء الرقابة :
أحدُ أنواع الحياء المُهمة حياءُ الرقابة : وهو حياءٌ يتولّدُ من عِلمِ العبدِ بنظر الحقِّ إليه .
مرة دخلت إلى محل تجاري -القصة قديمة-, وجدت شاشة تلفزيونية بالمحل, وعلى الشاشة شاب على طاولة, يكتب في دفاتر محاسبة, فعلمت أنَّ صاحب المحل التجاري في الطابق العلوي, عنده محاسب, فلا أدري لماذا فعلَ هذا؟ لكن وضع فوقَ هذا المحاسب آلة تصوير تلفزيونية, وعندهُ في المكتب هذه الشاشة, تُريه ما يفعلُ هذا المُحاسب, في ثماني ساعات. قلت: هذا المحاسب ما دام مُراقباً ثماني ساعات مستمرة، كل حركاته وسكناته محسوبة، كلما نظرَ صاحب المحل رآه ماذا يعمل؟ تصور نفسك مُراقباً أربعاً وعشرين ساعة.
بعض مدراء المدارس غلط غلطة كبيرة, ووضع بكل صف جهاز لاقط، أحبَّ أن يسمع كل أستاذ ماذا يتكلّم؟ فأصبح الموقف حرجاً. كل أستاذ له أحواله مع الطُلاب؛ أحدهم نزع الجهاز، الثاني قطع الشريط .
على كُلٍ؛ المراقبة المستمرة صعبة جداً, لكن ربنا لطيف, مع أنه معك دائماً ويُراقبك, لكن لا تشعر بثِقل المُراقبة, هذا أحد أنواع الحياء, حياءٌ يتولد من علم العبدِ بنظر الحقِ إليه, لذلك يستقبح كلُ جناية, وتحلو له كلُّ مجاهدة، يستقبح الجِناية وتحلو له المجاهدة في سبيل الله ، لأنَّ الله عزّ وجل يُراقبك ويسكت عن الشكوى .
متى يبتعد العبد عن حال المراقبة؟ :
الذي يشتكي كثيراً بعيد عن حال المراقبة, لأنه قال له: ألك حاجة؟ قال له: مِنك؟ قال : لا, من الله، قال له: عِلمهُ بحالي يُغني عن سؤالي .
إذا الإنسان شعر أنَّ الله يُراقبه يسكت لسانه, ماذا يتكلّم؟ قال له: عبدي كُن لي كما أُريد ولا تُعلمني بما يُصلُحك .
لا تُكلّف نفسكَ أن تتكلم بما تحتاج, أنا أعرفُ كُلَّ حاجاتك، أعرفُ كلَّ رغباتك، أعرفُ كلَّ ما يُزعجك، أعرف كُلَّ ما يؤلِمك، كُن لي كما أُريد ولا تُعلمني بما يُصلُحك .
قال: هذا حياءُ المراقبة, يحمل صاحبهُ على المجاهدة, ويُحملهُ على استقباح الجناية, ويجعلهُ يسكت.
عِلمهُ بحالي يُغني عن سُؤالي.
أرقى أنواع المراقبة: أن يخشى المُحِبُّ إذا فعلَ مخالفةً أن ينقطعَ عن محبوبه، هذا الخوف الذي قال عنه النبي: رأسُ الحِكمة مخافة الله. لا خوفَ عِقابهِ بل خوفَ البُعدِ عنه .
2-الشعور أن الله معك :
من أرقى أنواع الحياء : الشعور أنَّ الله معك، كلكم يعلم أنَّ مَعِيّةَ الله نوعان: مَعِيّةٌ عامة وهي مَعِيّةُ العِلم الإلهي:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
[سورة الحديد الآية: 4]
والمَعِيّةُ الخاصة: مَعِيّةُ الحِفظِ والتأييدِ والنصرِ والإكرام. قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾
[سورة النحل الآية: 128]
أما :
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
هذه مَعِيّةٌ عامة ، اللهُ مع كلِّ إنسان , حتى معَ العُصاة ، حتى معَ المُنحرفين , لكن إذا قال :
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾
[سورة المائدة الآية: 12]
قال: هذه مَعِيّةٌ خاصة, مَعِيّةُ الرعاية والحِفظِ والنصرِ والتأييد.
3-القرب :
القُرب أكّدهُ القرآن الكريم, فقالَ الله عزّ وجل:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 186]
إني قريب, القُرب أن تُحس أنَّ الله معك, أو أنَّ الله قريبٌ مِنك, هذا شعور من لوازم الإيمان، ولا تأتي معصية إلا إذا أحسست أنَّ الله لا يراك, أو أنَّ الله بعيدٌ عنك .
على كُلٍ؛ بعضُ أهلِ القلوب لهم وقفاتُ طويلة عندَ ما يُسمى بِحال المراقبة، حال المُراقبة أن تشعر دائماً أنَّ الله يُراقبك، وأنه مُطلّعٌ على سريرتك وعلى علانيتك، وعلى حركاتك وعلى سكناتك، وعلى أقوالك وعلى كُلِّ ما يَصدرُ عنك, هذا الشعور وحده يكفي أن تستقيمَ على أمره, ويؤكّدُ هذا: أنكَ إذا عَلِمتَ أنَّ الله يعلم ما تفعل:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾
[سورة الشعراء الآية: 213]
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾
يعني: هذا هو الإيمان؛ أن تعبدَ الله كأنكَ تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك، إما أن تراه أو هو يراك .