أسئلة الأعضاء
عضوية طرح الأسئلة
نظريات علم الإجرام
********************
ليس هناك من شك في أن ظاهرة الجريمة، تعد من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد الكيان البشري في أمنه، واستقراره، بل وحياته وانطلاقا من الخطورة التي تتسم بها هذه الظاهرة تجد علماء القانون، وعلماء النفس يولون هذه الظاهرة اهتماما منقطع النظير من حيث الدراسة حتى تمخضت هذه الدراسات عن نشوء علم مستقل باسم علم الإجرام ( Criminologie) ، وإن كان هذا العلم بالمعنى الفني للكلمة علما حديث النشأة شأنه في ذلك شأن العلوم المتصلة بدراسة الإنسان، التي لم تتطور إلا بتطور المنهج العلمي التجريبي في دراسة الظواهر الاجتماعية والبحث في حقائق الحياة.
لقد أصبحت لهذا العلم قواعده الخاصة به، والتي تتصف بالعمومية التي يمكن إعادة الجزئيات إليها- على الرغم من بعض الجدل المحتدم حول اعتباره علما-، كما أصبح من العلوم التي تدرس بشكل منتظم في جامعات العالم وقد عرف علم الإجرام بأنه:
ذلك الفرع من العلوم الجنائية الذي يبحث في الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع، لتحديد وتفسير العوامل التي أدت إلى ارتكابها.
لقد أدلى فقهاء القانون، وعلماء النفس بدلائهم في غمار هذا العلم وأسسوا النظريات في عوامل السلوك الإجرامي لدى الإنسان كما سيأتي ذكره.
ثانيا: المدارس والنظريات
تشكل علم الإجرام خلال سيرورته التاريخية من مدارس ونظريات أثبتت أركانه النظرية لتمنحه صفة الخصوصية والاستقلالية، فكان ظهوره متأثرا بتطور العلوم الإنسانية واستقلال البحث في المجال الإجرامي عن الخطابات الأخلاقية والفلسفية والدينية، متبنيا المناهج الوضعية مع ازدهار العلوم الصرفة أواخر القرن التاسع عشر، هكذا برزت النظرية البيولوجية معلنة التبني المطلق للمنهج الابمريقي الفيزيزلوجي المحض في تناول ظاهرة الإجرام، فجاءت بعدها نظريات جديدة، انتظمت في شكل مدارس تربطها أقطار منشئيها أو تقاطعها من حيث التشابه في الطروحات، وعموما توزعت بين تصورات ثلاث بيولوجي أو نفساني أو اجتماعي.
I - المدرسة البيولوجية
ارتبط الاتجاه البيولوجي في علم الإجرام بمرحلة التأسيس، إذ ظهر أول الأمر مفسرا الجريمة بتشوه عضوي أو عقلي لذاك المجرم. فالمجرم في نظر البيولوجي إنسان شاذ التكوين، له سمات خاصة تؤهله لارتكاب الفعل الإجرامي فسرا دون أن تكون له القدرة على اختيار آخر، وقد عرف هذا الاتجاه انتشارا واسعا خصوصا أنه يعتمد دراسة شخصية المجرم من الناحية العضوية الشيء الذي أثار الكثير من النقاش والاختلاف كان مصدر ميلاد نظريات أخرى.
-1- نظرية لومبروزو Lombrozo
يعتبر "لومبروزو" من مؤسسي علم الإجرام، حيث تناول شخصية المجرم بالبحث والدراسة من الناحية الفيزيولوجية وساعده في ذلك كونه طبيبا في الجيش الإيطالي وتتلخص نظريته في كون المجرم يحمل في بنيته العضوية خصائص معينة تختلف عن الإنسان السوي ومرتبطة أساسا بأعراض سريرية ومظاهر خلقية تتحدد في كل الرأس وملامح الوجه وحجم الأعضاء وشكلها، ثم أضاف إلى هذا التحديد العضوي عناصر نفسية استنتجتها من جملة سلوكات المجرم تجاه ذاته (الوشم) واتجاه الآخرين (العنف). وميزتها الأساسية ضعف الإحساس بالألم والقسوة وعدم الشعور بالخجل وعنف المزاج وحب الشر وبفضل عمله التشريحي استطاع لومبروزو اكتشاف وجود غور في آخر الجمجمة غير عادي ومشابه لجماجم الحيوانات، فاستنتج من ذلك أن المجرم نوع شاذ من الناس مختلف التركيب التكوين يقترب من الإنسان البدائي، لذلك فهو بدائي بطبعه لا يستطيع التكيف والعيش والانصهار في المجتمع الذي يعيش فيه [1] .
وأكد "لومبروزو" أن المجرم هو شخص مغلوب على أمره لأنمه مجرم بالفطرة، مع أنه ورغم عدم توفر شروط الرجعة (أي الخصائص البيولوجية المؤهلة للإجرام) في بعض الأشخاص بإمكانهم أن يكونوا مجرمين، لكن كل من تتوفر فيه الخصائص غالبا ما يكون مجرما.
لقد ارتبطت الانتقادات الموجهة إلى نظرية "لومبروزو" من الناحية المنهجية بحجم العينة المدروسة التي لم تن كافية حتى يمكن تعميم نتائج الدراسة، كما أن التأطير النوعي لهذه العينة لم يأخذ بعين الاعتبار إمكانية توفر تلك الخصائص الشكلية والعضوية في أشخاص أسوياء، وهذا ما تحققت منه دراسات لاحقة أكدت أن توفر الرجعة التي استعرضها "لومبرزو" ليست بالضرورة محددا للشخصية الإجرامية نظرا لوجود أشخاص يحملونها وليسوا بمجرمين كما أن هناك مجرمين رغم أنه لا تتوفر فيهم. كذلك مسألة تشبيهه المجرم بالإنسان البدائي لا يستند على أسس متينة، لأن الانتربولوجيا حينها كانت في بدايتها ولم تتوصل بعد إلى جمع المعلومات الكافية حول الإنسان البدائي ولم يكن في حوزتها سوى القليل من الدلائل العلمية والتي لا يمكن الاعتماد عليها في المقارنة. هذا إضافة إلى قصور في الإحصاء وتأخر الاكتشافات بخصوص قوانين الوراثة [2] .
ومع ذلك ظلت نظرية "لومبروزو" علامة بارزة في مسار تأسيس علم الإجرام ومؤشرا على تقدم الدراسات الإجرامية، ويكفي أن نلاحظ أنه أول من استخدم أسلوب المقارنة الاحصائية بين المجرمين وغير المجرمين مستعملا المنهج العلمي لدراسة الظاهرة الإجرامية وتبقى أبحاثه أيضا بمثابة الأساس للمدرسة البيولوجية.
-2- نظرية جورنج Charles Goring
قام "جورنج" بدراسات إحصائية مقارنة أجراها على ما يقرب من ثلاثة آلاف من المجرمين العائدين وعلى مجموعة كبيرة من الإنجليز غير المجرمين تضم بصفة خاصة طلبة المعاهد والمرضى بالمستشفيات والضباط والعاملين بوحدات الجيش، وقام بتقسيم المجرمين إلى مجموعات بالنظر إلى نوع الجرائم المرتكبة وفحص أعضائهم وقاسها مقارنا في ذلك بين كل المجموعات، وبين ما يتوفر لدى المجرمين من خصائص بدنية وما يتوفر لدى غيرهم من الأسوياء. وكان هدف "جورجنج" من هذه الدراسة أن يتبين مدى انتشار علامات الرجعة، التي استعرضها "لمبروزو" بين المجرمين في مقارنتهم بعامة الناس. وقد انتهى من أبحاثه التي استغرقت قرابة اثني عشر عاما إلى أنه لا توجد فوارق ملموسة بين الناس. وقد انتهى من أبحاثه التي استغرقت قرابة اثني عشر عاما إلى أنه لا توجد فوارق ملموسة بين مجموعات المجرمين المختلفة أو بين المجرمين وغيرهم من الناس من حيث توافر علامات الرجعة لديهم [3]
وعلى الرغم من ذلك لاحظ "جورنج" أن المجرمين يتميزون بصفة عامة بنقص في الوزن والطول، فهم أقصر من غيرهم وفي الوزن هم أيضا أقل من غيرهم ويعتقد "جورجنج" أن هذا النقص البدني حقيقة لها أهميتها إذ هو دليل على انحطاط عام موروث في طبيعة المجرم يبدو في قياس مستواه العقلي وغير ذلك من العوامل التي يكون للوراثة دخل فيها وفي هذا الانحطاط يكمن الميل إلى الجريمة.
وقد تبين من خلال هذه الدراسات الإحصائية التي قام بها «جورنج" أن تمت تشابه بين الآباء والأبناء في السلوك الإجرامي وذلك يعود في نظره إلى عوامل وراثية، فحرص على تأكيد الوراثة في انتقال الميول الإجرامي من جيل لآخر مستبعدا أي تأثير للوسط أو التقليد أو الظروف الاجتماعية في إنتاج الفعل الإجرامي [4] .
- 3- نظرية "هوتون" Hooton
تأييدا لنظرية "لومبروزو" اعتبر "هوتون" أن المجرمين أدنى عضويا من غيرهم والجريمة نتاج لتأثير البيئة على الكائنات الإنسانية المنحطة. ويتبع ذلك أن التخلص من الجريمة لا يمكن أن يتم إلا ببتر غير اللائقين جسميا وعقليا وخلقيا أو بعزلهم عزلا تاما، وقد استنتج "هوتون" من خلال دراسته الموسعة التي شملت عينة مكونة من أربعة عشر ألفا تقارب ربع هؤلاء، أن التركيب العضوي للمجرم يختلف باختلاف نوعية الجرائم المرتكبة، حيث يرى أن القاتل مثلا يكون اقرب إلى الطول واللص أقرب إلى القصر والنحافة. ومرتكب الجرائم الجنسية أقرب ما يكون إلى الشكل الغليظ القصير، هكذا تبين له أن توفر نوع معين من الشذوذ البدني لدى المجرم يصاحبه ميل إلى ارتكاب نوع معين من الجرائم يختلف عن تلك مجرم آخر يتوافر لديه نوع من هذا الشذوذ [5] .
تعرضت نظرية "هوتون" إلى النقد وأهم ما انتقد فيها هو ربطه الجريمة بخصائص معينة عند كل مجرم، والمستوى المنهجي يحتمل أن كثيرا كمن المجرمين الذين أجرى عليهم أبحاثه قد سبق أن ارتكبوا جرائم تختلف تماما في نوعها عن الجرائم التي أودعوا السجن من أجلها والتي اتخذها "هوتن" وحدها في اعتباره وقت إجراء دراساته الإحصائية، وكونه اتخذ عينته من السجناء وهي عينة لا تمثل جميع المجرمين [6] .
- 4- نظرية "دي توليو"
رغم إقراره بدور العوامل الخارجية في ارتكاب الفعل الإجرامي، فقد اعتبر أن عامل احسم في ذلك يعود لأسباب داخلية، إذ أن التجربة تدل على أ، هناك أفرادا لديهم استعداد لارتكاب الجريمة لا يتوفر لدى غيرهم بدليل أن الظروف الخارجية التي تثير فيهم النزعة إلى الإجرام لا تحدث نفس الأثر بالنسبة لأشخاص يعيشون نفس الظروف. ولا تكون تلك الظروف سوى عامل كشف يثير نزوعاتهم الإجرامية، تلك النزوعات المرتبطة بتكوينهم الجسمي والنفسي تميزهم عن الأشخاص العاديين [7] .
فالمجرم في نظر "دي توليو" يعرف من مظهره الخارجي ووظائف جسمه الداخلية وحالته النفسية. فمن الناحية المظهرية لوحظ أن المجرمين بحكم تكوينهم يتوفرون على عيوب جسمية تنتشر بينهم بنسبة أكبر من انتشارها بين غيرهم من المجرمين.
ومن الناحية الداخلية لوحظ وجود عيوب في إفرازات الغدد لاسيما الغدة الدرقية وذلك في الجهاز العصبي والجهاز الدموي والبولي. وهذه العيوب إن كانت تتوافر لدى غير المجرمين إلا أن انتشارها لدى المجرمين يكون بنسبة أكبر. وأخيرا يتميز المجرمون من الناحية النفسية بشذوذ في الجانب الغريزي كالشذوذ في غريزة القتال الذي يؤدي إلى ارتكاب جرائم القتل والدم، والشذوذ في الغريزة الجنسية الذي يصطحب عادة بفساد خلقي وميل إلى العنف.
غير أن هذه النظرية بدورها لا تخلو من المآخذ، إذ هي كمثيلاتها تفتقر إلى الإنسانية الموثوق بها والتي تؤكد صحة ما انتهت إليه من نتائج [8] .
-5- نظرية فرويد S.Freud
قاد سيمون فرويد توجها عاما من داخل التيار البيولوجي وفي إطار المدرسة البيولوجية الحديثة ونحا به نحو دور التكوين النفسي بدل التكوين العضوي، كعامل من عوامل الإجرام في إطار نظرية التحليل النفسي.
تنقسم النفس البشرية في التحليل الفرويدي إلى ثلاثة أقسام هي الذات الأنا والأنا الأعلى وكل قسم من هذه الأقسام يختص بوظيفة معينة
* فالذات: هي خزان الميولات الفطرية الغريزية والموروثة التي تستقر لا شعور الفرد وتتطلب من الذات إظهارها دون اعتبار للحدود الاجتماعية والأخلاقية السائدة وبالتالي فإنها تشكل الجزء الأسود في النفس البشرية.
* الأنا: وتمثل الجانب العامل في النفس البشرية والتي تتدخل لتعديل ميولات الذات الغريزية والفطرية لتجعلها تتلاءم مع ما يرتضيه المجتمع وترضى عنه الأنا الأعلى. أما إذا فشل الأنا في هذه المهمة فإنه يسعى إلى تصعيد الجانب الغريزي أو يكبته في اللاشعور.
* الأنا الأعلى: وتمثل الجانب المثالي في النفس البشرية وهي المنطقة التي تتشبع بالقيم الاجتماعية والدينية والمثالية، حيث الضمير الذي يوفر الكوابح الضرورية واللازمة للأنا.
انطلاقا من هذا التحليل يعتقد فرويد أن الجريمة تعود إلى عجز الأنا على أبناء التكيف اللازم مع ميول ونزعات الذات، مع القيم الاجتماعية أو عن تصعيد النشاط الغريزي أو عن كبته للاشعور، أو لغياب دور الأنا الأعلى في الرقابة والكبح، لذلك تجد الذات تنطلق لتحقق حاجاتها الغريزية بأي وسيلة شأنه أن يفرز فيما بعد عقدة الذنب وتأنيب الضمير فيبحث عن العقاب ليتخلص من هذه العقدة فيسعى إلى ارتكاب الجريمة لتوقيع العقاب عليه.
غير أن نظرية فرويد رغم الإضافة التي قدمتها لتحليل دوافع الجريمة وأسبابها فإنها تعرضت لانتقادات لاذعة بسبب ارتكازها على التحليل النفسي وبالتالي تستعصي على التحليل العلمي، بالإضافة إلى أن الاضطرابات النفسية ثبتت أنها لا تقود بالضرورة إلى السلوك الإجرامي [9] .
II – المدرسة الاجتماعية الأوربية
جاء التصور الاجتماعي للظاهرة الإجرامية كرد فعل ضد التصورات البيولوجية التي استبعدت كل تأثير للأوساط الاجتماعية فيها وفي المرحلة التاريخية ذاتها حمل مجموعة المفكرين الأوربيين على عاتقهم مسؤولية وضع الفعل الإجرامي في سياقه وليس الاكتفاء بحصره في الحالة الفيزيولوجية للمجرم وأهم أقطاب المدرسة الاجتماعية الأوربية نجد أمثال: لاكساني وتارد ودوركهايم.
4- نظرية الوسط الاجتماعي */ لاكساني Lacassagne
ركز صاحب نظرية الوسط الاجتماعي على التأثير البالغ للوسط الاجتماعي في مجال خلق الجريمة وتتلخص في كون المجتمع هو الذي يصنع الجريمة وأن "المجتمعات ليس بها من المجرمين أكثر مما تستحق [10] فالوسط الاجتماعي هو الوعاء المنشط والملائم للإجرام، والمجرم لا يظهر إلا في الوسط الذي يسمح له بالظهور كأنه جرثومة لا أهمية لها إلا إذا وجدت الحقل المناسب لنموها.
ويرجع لهذه النظرية فضل توجيه الأنظار إلى الجوانب الاجتماعية للإجرام، لكن يؤخذ عليها أنها أهملت الجوانب الفردية للإجرام، وهي لا تفسر الكيفية التي يؤثر بها الوسط على ثلة من أفراد المجتمع هم المجرمين دون غيرهم ممن يعيشون في نفس الوسط وقد حاول العالم "غابريال تارد" إيجاد تفسير لكيفية تأثير الوسط على الفرد بما يدفعه إلى ارتكاب الجريمة [11] .
2- نظرية التأثير النفسي الاجتماعي / غابرييل تارد G.Tarade
تجنب "غابرييل تارد" التكوين العضوي للمجرم معتبرا أهمية المحيط الاجتماعي في ظهور السلوك الإجرامي مركزا على عوامل نفسية واجتماعية هي "التقليد" و"التنشئة الاجتماعية" و"المعتقدات الثقافية" فعوامل انحراف الفرد وخروجه عن أنماط السلوك الاجتماعي إنما ترجع أساسا إلى عوامل يغلب عليها الطابع الاجتماعي، بل الإمكانيات والاختيارات الممنوحة والمنحة للأفراد وحيتهم في التفضيل بين المنهج السوي والمنهج غير السوي تبقى هي المؤشر على استعداد بعض الأفراد وميولهم لاختيار طريق الجريمة.
هكذا يكون احتراف الجريمة في نظر "تارد" خلاصة تمرين وتدريب وظروف تنشئة مثلها مثل غيرها من الحرف والمهن مع فارق بسيط هو أن المجرم ينشأ ويتربى في بيئة إجرامية ساعدت على انخراطه في الجريمة [12] .
إلا أنه يلاحظ على "تارد" بقي متشبتا بقانونه الأخلاقي الذي ربطه بالجريمة واعتبر أن مستوى الإجرام هو مؤشر حقيقي للأخلاق في المجتمع مما يعكس تلازم وتماسك دائرة الأخلاق ودائرة القانون، في حين أن هذا التلاؤم لا يصدق إللا على جانب ضئيل من الجرائم التي تمس الشعور العام بالعطف والاستقامة، لتبقى الجرائم الاعتبارية والاصطناعية التي تكون من وضع المشرع في ظرف ومكان معينين بعيدة عن هذا التحديد.
3- نظرية البنية الاجتماعية والثقافية / إيميل دوركايم E.Durkheim
يعتبر مؤسس علم الاجتماع "إيميل دوركهايم" صاحب هذه النظرية، أن الجريمة ظاهرة طبيعية يجب قبولها على أنها تعبير له وظيفته، فهي موجودة في جميع المجتمعات في كل الأزمنة، لكنها تصير ظاهرة مرضية غير عادية فقط حينما ترتفع أو تنخفض عن المتوسط أو المعدل، ولا يمكن اعتبارها مرضية حينما لا تؤثر سليا في المهام الوظيفية للمجتمع حيث أ، الجريمة ليست عرضية وإنما هي من صفات المجتمع وتركيبته وثقافته، فالفرد يعتبر جزءا من المجتمع لذلك فإن جنوحه وخروجه عن قواعد السلوك الجماعية لا يمثل ظاهرة مرضية شخصية وإنما يعتبر ذلك ناشئا عن المجتمع مباشرة وعما يتصف به من خصائص لذلك فإذا كانت الجريمة لازمة ولا تخرج عن المعدل المتوسط للمجتمع فإنها عادية وطبيعية بل وتعتبر علامة صحة المجتمع وسلامة نظمه ومؤسساته [13] .
كما أن "دوركهايم" استعمل مفهوم الأنومية أو اللامعيارية واعتبرها سببا للانحراف الاجتماعي، وتعني حالة الأنومية حالة اللاقانون أو اللانظام الذي يجد الفرد نفسه فيها مع افتقاره إلى قاعدة أو معيار لسلوكه السوي مقارنة مع السلوك غير السوي وفي هذه الحالة غالبا ما تنتج عن الصراع أو التناقض الذي يعيشه الفرد في علاقته الاجتماعية. وخاصة الواجبات والمتطلبات اليومية للحياة، بحيث تكون هذه الحالة تعبيرا عن أزمة وحاجة العلاقات الاجتماعية للقيم التي تحفظ لها تناسقها ووظيفتها مما ينعكس على الفرد ويدفعه إلى العزلة ومعاداة مجتمعه أمام غياب معايير وقواعد تقوم بدور الضبط الاجتماعي ويؤكد "دوربكهايم" أن ضعف المجتمع وتهاونه في احتضان الفرد إليه بحيث أن هذا الأخير يصبح في حل من كل قيد اجتماعي أو خضوع أو احترام لطقوسه ويعتقد أنه أصبح جزءا فوق العادة ولا شيء يلزمه نحو مجتمعه (ضعف الإكراه الاجتماعي) فيستبيح ارتكاب الجرائم التي تصبح في نظره وسائل مشروعة لتحقيق ما عجز المجتمع عن توفيره له وهي الحاجيات الطبيعية التي بدونها لا يمكن للحياة أن تستقيم [14] .
III - المدرسة الاجتماعية الأمريكية
اعتمد الأمريكيون في تفسير الجريمة التصور الاجتماعي وذلك بردها إلى عوامل اجتماعية، وتأثرا بالإرث الأوربي خصوصا إسهامات "دوركهايم" الوضعية الموضوعية، تأسست المدرسة الأمريكية بخصوصيات جديدة معتبرة أن السلوك الإجرامي نابع عن نفس العوامل التي ينجم عنها أي سلوك اجتماعي آخر، فكان الرابط بين هذه السلوكات والتنظيم الاجتماعي هي السمة الغالبة على نشأة هذه المدرسة، ومن ثمة فإن النظريات الاجتماعية تنطلق من دراسة الانحراف كظاهرة اجتماعية تخضع في حركتها وانتشارها لقوانين حركة المجتمع، وانطلاقا من هذه الخصوصية سنحاول أن نستعرض لثلاثة نظريات اجتماعية تختلف في منطلقاتها لتفسير السلوك الإجرامي وهي مجموعة تمثل المدرسة الأمريكية.
- 5 - نظرية العوامل السائدة
اتخذت هذه النظرية من الدراسات الاجتماعية أساسا لمنهجيتها وبحثها عن أسباب الجريمة واعتمدت أسلوب التحليل الإحصائي وربطت الجريمة بالمتغيرات المختلفة التي تحدد السلوك الإجرامي مع حصر هذه المتغيرات مثلا البطالة، السن، الجنس، الحالة الثقافية، الحالة السكن، الحالة الصحية...، وبعد تحديد المتغيرات المختلفة ومقارنتها بالمعطيات الأولية التي يتوفر عليها الباحث، يعمد هذا الأخير إلى استخلاص العوامل التي تلازم ظهور السلوك المنحرف بواسطة معامل الارتباط كي يتمكن من تصنيف المتغيرات حسب درجة ارتباطها بالجريمة وبالتالي الخروج بأكثر العوامل ذات علاقة سببية بالظاهرة [15] .
وجهت انتقادات لهذه النظرية وكان من بينها تلك الانتقادات التي خصت المستوى المنهجي ذلك أن الإحصاء يهدف إلى تلخيص الوقائع والجرائم في سلسلة من الأرقام التي تسمح باستخراج قوانين تفسيرية للظاهرة الإجرامية، مما يستبعد الفروق الفردية الدقيقة ويسعى إلى تأطير استقرائي يتجاوز النوعية من حالة إلى أخرى، مع أنه يبقى الفعل الإجرامي له جوانب من الفرادة والخصوصية تستعصي على التعميم وإخراجه من حالته الفردية ولحظته الزمنية تجعله قابلا للتمطيط.
-2-نظرية الاختلاط التفاضلي/ "سذرلاند" Sutherlan
يرفض اعتبار السلوك الإجرامي سلوكا موروثا، فالإجرام لا يورث، وإنما يكتسب بالتعلم الذي يحدث من نتيجة انخراط الفرد في جماعة، ويحدد نوع وقواعد السلوك والقيم السائدة فيها ما إذا كان الفرد سيتعلم الإجرام أم لا، فإن كان أفراد هذه الجماعة ممن يحترمون القانون ويلتزمون بأوامره ونواهيه، تخلق الفرد بأخلاقهم وتعلم منهم السلوك المتفق مع القانون، أما إن كانوا ممن يؤيدون انتهاك القوانين ويميلون لمخالفتها، فالغالب أن ينهج الفرد نهجهم ويتعلم منهم خصالهم مما يؤهله لاقتراف الفعل الإجرامي، فيكون انحرافه أمرا مؤكدا إذا اقتصر في علاقاته على أفراد جماعته، وعزل الجماعات الأخرى التي يغلب على أفرادها احترام القانون [16] .
حسب "سذرلاند" لا يمكن إرجاع السلوك الإجرامي في جميع الأحوال إلى الفقر أو إلى مجرد عوامل سائدة كالظروف والعوامل النفسية والاجتماعية التي تتصل بالفقر والفقراء، فهناك أشخاص ينتمون إلى طبقات غنية ومع ذلك يرتكبون بعض الجرائم كجزء من نشاطاتهم المهنية وهنا جاء تركيزه على الجرائم التي يرتكبها ذوو الياقات البيضاء أو الجرائم الخاصة، لذلك فهو يرى أن السلوك الإجرامي يتعلمه الأغنياء والفقراء على السواء بطريقة واحدة وبعمليات متشابهة، بذلك حاول "سذرلاند" شرح سلوك المنحرف المتعلم أو المكتسب الذي يظهر نتيجة صراع بين معايير الثقافات المختلفة التي يتكون منها المجتمع الأمريكي، هذا السلوك يظهر حينما تطغى المعايير الجانحة في جماعة ما على المعايير المتكيفة التي تحكم المجتمع الكلي [17] .
ومن بين المؤاخذات التي وجهت ل "سذرلاند" كون الفرد في كثير من الأحيان لا يكون مجبرا على الانتماء إلى جماعات منحرفة، إن لم يكن هو شخص منحرف، كما أنه لم يأخذ بعني الاعتبار الاختلافات داخل المجموعة الواحدة ودور الفرد في هذا الاختلاف ففي الوقت الذي يتبنى البعض موقفا إجراميا ينجح آخرون في احترام القانون ويكون العنصر من المجموعة قادرا على التأثير والاختيار بين أحد الجانحين وتركيز "سذرلاند" على التعلم واستبعاد العامل الشخصي الداخلي اصطدم بطروحات تقول عكس ذلك، لأن الفرد قد لا يكون في حاجة لمن يعلمه السلوك المنحرف بقدر ما يكون في حاجة إلى تعلم السلوك السوي فالطفل مثلا بطبيعته ميال إلى الكذب والخداع وإذا ترك بغير تربية ولا تهذيب فإنه يكبر نازعا إلى الإجرام.
3- نظرية التراخي الاجتماعي "ميرتون"
اعتمد "ميرتون" في نظريته على تجاوز العوامل المنعزلة واهتم بالبنية الاجتماعية بما فيها من تناقضات تدفع بالفرد إلى الخروج عن التنظيم الاجتماعي والسقوط في الإجرام بفعل غياب المعايير الاجتماعية، وحاول "ميرتون" أن يعتمد نظرة متكاملة للمجتمع الأمريكي. فانطلق من تحليل البنية الاجتماعية محاولا معرفة الأسباب التي تدفع إلى السلوك الإجرامي، وتوصل إلى حصر هذه الأنماط السلوكية اعتمادا على مفهوم اللامعيارية أو حالة عدم النظام التي تسيطر على المجتمع وتجعله بدون وسيلة ثقافية يعتمدها الناس لتحقيق رغباتهم فيضطرون إلى الإجرام، فمرجع أسباب الجريمة والجنوح هو ردود فعل الفرد وتكيفه مع التناقضات التي تفرزها الثقافة السائدة لمجتمعه، وبما أن أغلب الرغبات والغرائز ليست بالضرورة طبيعية وإنما هي مجموعة من الأهداف والإغراءات التي ينتجها المجتمع وتكرسها الثقافة السائدة فيه، فإن عدم توفير الإمكانيات وإتاحة الفرص لجميع فئات المجتمع لتحقيقها فإنه من الضروري أن يظهر أفراد يعمدون إلى وسائل غير مشروعة في تحقيق إشباع ما تتطلبه الثقافة بعد أن تعذر تحقيقها بوسائل مشروعة، هكذا ميز "ميرتون" بين عنصرين هامين هما [18] :
- الأهداف والمعايير: الهداف هي تلك الاهتمامات التي تكون مشروعة وتشكل آمال وتطلعات يسعى كل فرد لتحقيقها وتتدرج بالترتيب حسب أهميتها في سلم القيم الاجتماعية.
- أما المعايير: هي مجموع القواعد التي تحكم السلوك وتضبط وسائل الوصول إلى الأهداف فسلوك الإنسان مرتبط بهذين العنصرين ومدى ترابط العلاقة بينهما وكلما كانت الصلة متوازنة كان السلوك متوازنا، وإذا تم التركيز على الأهداف دون اعتبار للمعايير تصبح كل الوسائل مشروعة أو غير مشروعة.
- مقبولة في نظر الشخص لتحقيقها وبالتالي ينتج السلوك الإجرامي عن هذا الاختلال
4- النظرية البيئية / كليفورد شو
ارتكزت مقاربة شو للظاهرة الإجرامية على المعطيات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمنطقة محددة بحيث تكون هذه الأوضاع هي المسؤولة عن الجريمة بها، وهو ما يعني أن الجانب العضوي والنفسي للفرد ليست هي العامل الحاسم بل الظروف الاقتصادية السائدة والمحيط الاجتماعي والبيئي، وقد ركز شو في نظريته على المجالات العمرانية والسكانية غير الملائمة والتي تنتشر فيها كل أشكال الجرائم (أحياء الضواحي- هوامش المدن)، وهو ما يجعل شو يلتقي موضوعية مع نظرية لاكساني في دور الوسط الاجتماعي في الجنوح.
وقد ساهمت أبحاث "شو" في تركيز الاهتمام على المراكز الحضرية والظاهرة الإجرامية والتي خلصت إلى وجود نوع من التمايز ما بين جرائم البوادي وجرائم الحواضر
********************
ليس هناك من شك في أن ظاهرة الجريمة، تعد من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد الكيان البشري في أمنه، واستقراره، بل وحياته وانطلاقا من الخطورة التي تتسم بها هذه الظاهرة تجد علماء القانون، وعلماء النفس يولون هذه الظاهرة اهتماما منقطع النظير من حيث الدراسة حتى تمخضت هذه الدراسات عن نشوء علم مستقل باسم علم الإجرام ( Criminologie) ، وإن كان هذا العلم بالمعنى الفني للكلمة علما حديث النشأة شأنه في ذلك شأن العلوم المتصلة بدراسة الإنسان، التي لم تتطور إلا بتطور المنهج العلمي التجريبي في دراسة الظواهر الاجتماعية والبحث في حقائق الحياة.
لقد أصبحت لهذا العلم قواعده الخاصة به، والتي تتصف بالعمومية التي يمكن إعادة الجزئيات إليها- على الرغم من بعض الجدل المحتدم حول اعتباره علما-، كما أصبح من العلوم التي تدرس بشكل منتظم في جامعات العالم وقد عرف علم الإجرام بأنه:
ذلك الفرع من العلوم الجنائية الذي يبحث في الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع، لتحديد وتفسير العوامل التي أدت إلى ارتكابها.
لقد أدلى فقهاء القانون، وعلماء النفس بدلائهم في غمار هذا العلم وأسسوا النظريات في عوامل السلوك الإجرامي لدى الإنسان كما سيأتي ذكره.
ثانيا: المدارس والنظريات
تشكل علم الإجرام خلال سيرورته التاريخية من مدارس ونظريات أثبتت أركانه النظرية لتمنحه صفة الخصوصية والاستقلالية، فكان ظهوره متأثرا بتطور العلوم الإنسانية واستقلال البحث في المجال الإجرامي عن الخطابات الأخلاقية والفلسفية والدينية، متبنيا المناهج الوضعية مع ازدهار العلوم الصرفة أواخر القرن التاسع عشر، هكذا برزت النظرية البيولوجية معلنة التبني المطلق للمنهج الابمريقي الفيزيزلوجي المحض في تناول ظاهرة الإجرام، فجاءت بعدها نظريات جديدة، انتظمت في شكل مدارس تربطها أقطار منشئيها أو تقاطعها من حيث التشابه في الطروحات، وعموما توزعت بين تصورات ثلاث بيولوجي أو نفساني أو اجتماعي.
I - المدرسة البيولوجية
ارتبط الاتجاه البيولوجي في علم الإجرام بمرحلة التأسيس، إذ ظهر أول الأمر مفسرا الجريمة بتشوه عضوي أو عقلي لذاك المجرم. فالمجرم في نظر البيولوجي إنسان شاذ التكوين، له سمات خاصة تؤهله لارتكاب الفعل الإجرامي فسرا دون أن تكون له القدرة على اختيار آخر، وقد عرف هذا الاتجاه انتشارا واسعا خصوصا أنه يعتمد دراسة شخصية المجرم من الناحية العضوية الشيء الذي أثار الكثير من النقاش والاختلاف كان مصدر ميلاد نظريات أخرى.
-1- نظرية لومبروزو Lombrozo
يعتبر "لومبروزو" من مؤسسي علم الإجرام، حيث تناول شخصية المجرم بالبحث والدراسة من الناحية الفيزيولوجية وساعده في ذلك كونه طبيبا في الجيش الإيطالي وتتلخص نظريته في كون المجرم يحمل في بنيته العضوية خصائص معينة تختلف عن الإنسان السوي ومرتبطة أساسا بأعراض سريرية ومظاهر خلقية تتحدد في كل الرأس وملامح الوجه وحجم الأعضاء وشكلها، ثم أضاف إلى هذا التحديد العضوي عناصر نفسية استنتجتها من جملة سلوكات المجرم تجاه ذاته (الوشم) واتجاه الآخرين (العنف). وميزتها الأساسية ضعف الإحساس بالألم والقسوة وعدم الشعور بالخجل وعنف المزاج وحب الشر وبفضل عمله التشريحي استطاع لومبروزو اكتشاف وجود غور في آخر الجمجمة غير عادي ومشابه لجماجم الحيوانات، فاستنتج من ذلك أن المجرم نوع شاذ من الناس مختلف التركيب التكوين يقترب من الإنسان البدائي، لذلك فهو بدائي بطبعه لا يستطيع التكيف والعيش والانصهار في المجتمع الذي يعيش فيه [1] .
وأكد "لومبروزو" أن المجرم هو شخص مغلوب على أمره لأنمه مجرم بالفطرة، مع أنه ورغم عدم توفر شروط الرجعة (أي الخصائص البيولوجية المؤهلة للإجرام) في بعض الأشخاص بإمكانهم أن يكونوا مجرمين، لكن كل من تتوفر فيه الخصائص غالبا ما يكون مجرما.
لقد ارتبطت الانتقادات الموجهة إلى نظرية "لومبروزو" من الناحية المنهجية بحجم العينة المدروسة التي لم تن كافية حتى يمكن تعميم نتائج الدراسة، كما أن التأطير النوعي لهذه العينة لم يأخذ بعين الاعتبار إمكانية توفر تلك الخصائص الشكلية والعضوية في أشخاص أسوياء، وهذا ما تحققت منه دراسات لاحقة أكدت أن توفر الرجعة التي استعرضها "لومبرزو" ليست بالضرورة محددا للشخصية الإجرامية نظرا لوجود أشخاص يحملونها وليسوا بمجرمين كما أن هناك مجرمين رغم أنه لا تتوفر فيهم. كذلك مسألة تشبيهه المجرم بالإنسان البدائي لا يستند على أسس متينة، لأن الانتربولوجيا حينها كانت في بدايتها ولم تتوصل بعد إلى جمع المعلومات الكافية حول الإنسان البدائي ولم يكن في حوزتها سوى القليل من الدلائل العلمية والتي لا يمكن الاعتماد عليها في المقارنة. هذا إضافة إلى قصور في الإحصاء وتأخر الاكتشافات بخصوص قوانين الوراثة [2] .
ومع ذلك ظلت نظرية "لومبروزو" علامة بارزة في مسار تأسيس علم الإجرام ومؤشرا على تقدم الدراسات الإجرامية، ويكفي أن نلاحظ أنه أول من استخدم أسلوب المقارنة الاحصائية بين المجرمين وغير المجرمين مستعملا المنهج العلمي لدراسة الظاهرة الإجرامية وتبقى أبحاثه أيضا بمثابة الأساس للمدرسة البيولوجية.
-2- نظرية جورنج Charles Goring
قام "جورنج" بدراسات إحصائية مقارنة أجراها على ما يقرب من ثلاثة آلاف من المجرمين العائدين وعلى مجموعة كبيرة من الإنجليز غير المجرمين تضم بصفة خاصة طلبة المعاهد والمرضى بالمستشفيات والضباط والعاملين بوحدات الجيش، وقام بتقسيم المجرمين إلى مجموعات بالنظر إلى نوع الجرائم المرتكبة وفحص أعضائهم وقاسها مقارنا في ذلك بين كل المجموعات، وبين ما يتوفر لدى المجرمين من خصائص بدنية وما يتوفر لدى غيرهم من الأسوياء. وكان هدف "جورجنج" من هذه الدراسة أن يتبين مدى انتشار علامات الرجعة، التي استعرضها "لمبروزو" بين المجرمين في مقارنتهم بعامة الناس. وقد انتهى من أبحاثه التي استغرقت قرابة اثني عشر عاما إلى أنه لا توجد فوارق ملموسة بين الناس. وقد انتهى من أبحاثه التي استغرقت قرابة اثني عشر عاما إلى أنه لا توجد فوارق ملموسة بين مجموعات المجرمين المختلفة أو بين المجرمين وغيرهم من الناس من حيث توافر علامات الرجعة لديهم [3]
وعلى الرغم من ذلك لاحظ "جورنج" أن المجرمين يتميزون بصفة عامة بنقص في الوزن والطول، فهم أقصر من غيرهم وفي الوزن هم أيضا أقل من غيرهم ويعتقد "جورجنج" أن هذا النقص البدني حقيقة لها أهميتها إذ هو دليل على انحطاط عام موروث في طبيعة المجرم يبدو في قياس مستواه العقلي وغير ذلك من العوامل التي يكون للوراثة دخل فيها وفي هذا الانحطاط يكمن الميل إلى الجريمة.
وقد تبين من خلال هذه الدراسات الإحصائية التي قام بها «جورنج" أن تمت تشابه بين الآباء والأبناء في السلوك الإجرامي وذلك يعود في نظره إلى عوامل وراثية، فحرص على تأكيد الوراثة في انتقال الميول الإجرامي من جيل لآخر مستبعدا أي تأثير للوسط أو التقليد أو الظروف الاجتماعية في إنتاج الفعل الإجرامي [4] .
- 3- نظرية "هوتون" Hooton
تأييدا لنظرية "لومبروزو" اعتبر "هوتون" أن المجرمين أدنى عضويا من غيرهم والجريمة نتاج لتأثير البيئة على الكائنات الإنسانية المنحطة. ويتبع ذلك أن التخلص من الجريمة لا يمكن أن يتم إلا ببتر غير اللائقين جسميا وعقليا وخلقيا أو بعزلهم عزلا تاما، وقد استنتج "هوتون" من خلال دراسته الموسعة التي شملت عينة مكونة من أربعة عشر ألفا تقارب ربع هؤلاء، أن التركيب العضوي للمجرم يختلف باختلاف نوعية الجرائم المرتكبة، حيث يرى أن القاتل مثلا يكون اقرب إلى الطول واللص أقرب إلى القصر والنحافة. ومرتكب الجرائم الجنسية أقرب ما يكون إلى الشكل الغليظ القصير، هكذا تبين له أن توفر نوع معين من الشذوذ البدني لدى المجرم يصاحبه ميل إلى ارتكاب نوع معين من الجرائم يختلف عن تلك مجرم آخر يتوافر لديه نوع من هذا الشذوذ [5] .
تعرضت نظرية "هوتون" إلى النقد وأهم ما انتقد فيها هو ربطه الجريمة بخصائص معينة عند كل مجرم، والمستوى المنهجي يحتمل أن كثيرا كمن المجرمين الذين أجرى عليهم أبحاثه قد سبق أن ارتكبوا جرائم تختلف تماما في نوعها عن الجرائم التي أودعوا السجن من أجلها والتي اتخذها "هوتن" وحدها في اعتباره وقت إجراء دراساته الإحصائية، وكونه اتخذ عينته من السجناء وهي عينة لا تمثل جميع المجرمين [6] .
- 4- نظرية "دي توليو"
رغم إقراره بدور العوامل الخارجية في ارتكاب الفعل الإجرامي، فقد اعتبر أن عامل احسم في ذلك يعود لأسباب داخلية، إذ أن التجربة تدل على أ، هناك أفرادا لديهم استعداد لارتكاب الجريمة لا يتوفر لدى غيرهم بدليل أن الظروف الخارجية التي تثير فيهم النزعة إلى الإجرام لا تحدث نفس الأثر بالنسبة لأشخاص يعيشون نفس الظروف. ولا تكون تلك الظروف سوى عامل كشف يثير نزوعاتهم الإجرامية، تلك النزوعات المرتبطة بتكوينهم الجسمي والنفسي تميزهم عن الأشخاص العاديين [7] .
فالمجرم في نظر "دي توليو" يعرف من مظهره الخارجي ووظائف جسمه الداخلية وحالته النفسية. فمن الناحية المظهرية لوحظ أن المجرمين بحكم تكوينهم يتوفرون على عيوب جسمية تنتشر بينهم بنسبة أكبر من انتشارها بين غيرهم من المجرمين.
ومن الناحية الداخلية لوحظ وجود عيوب في إفرازات الغدد لاسيما الغدة الدرقية وذلك في الجهاز العصبي والجهاز الدموي والبولي. وهذه العيوب إن كانت تتوافر لدى غير المجرمين إلا أن انتشارها لدى المجرمين يكون بنسبة أكبر. وأخيرا يتميز المجرمون من الناحية النفسية بشذوذ في الجانب الغريزي كالشذوذ في غريزة القتال الذي يؤدي إلى ارتكاب جرائم القتل والدم، والشذوذ في الغريزة الجنسية الذي يصطحب عادة بفساد خلقي وميل إلى العنف.
غير أن هذه النظرية بدورها لا تخلو من المآخذ، إذ هي كمثيلاتها تفتقر إلى الإنسانية الموثوق بها والتي تؤكد صحة ما انتهت إليه من نتائج [8] .
-5- نظرية فرويد S.Freud
قاد سيمون فرويد توجها عاما من داخل التيار البيولوجي وفي إطار المدرسة البيولوجية الحديثة ونحا به نحو دور التكوين النفسي بدل التكوين العضوي، كعامل من عوامل الإجرام في إطار نظرية التحليل النفسي.
تنقسم النفس البشرية في التحليل الفرويدي إلى ثلاثة أقسام هي الذات الأنا والأنا الأعلى وكل قسم من هذه الأقسام يختص بوظيفة معينة
* فالذات: هي خزان الميولات الفطرية الغريزية والموروثة التي تستقر لا شعور الفرد وتتطلب من الذات إظهارها دون اعتبار للحدود الاجتماعية والأخلاقية السائدة وبالتالي فإنها تشكل الجزء الأسود في النفس البشرية.
* الأنا: وتمثل الجانب العامل في النفس البشرية والتي تتدخل لتعديل ميولات الذات الغريزية والفطرية لتجعلها تتلاءم مع ما يرتضيه المجتمع وترضى عنه الأنا الأعلى. أما إذا فشل الأنا في هذه المهمة فإنه يسعى إلى تصعيد الجانب الغريزي أو يكبته في اللاشعور.
* الأنا الأعلى: وتمثل الجانب المثالي في النفس البشرية وهي المنطقة التي تتشبع بالقيم الاجتماعية والدينية والمثالية، حيث الضمير الذي يوفر الكوابح الضرورية واللازمة للأنا.
انطلاقا من هذا التحليل يعتقد فرويد أن الجريمة تعود إلى عجز الأنا على أبناء التكيف اللازم مع ميول ونزعات الذات، مع القيم الاجتماعية أو عن تصعيد النشاط الغريزي أو عن كبته للاشعور، أو لغياب دور الأنا الأعلى في الرقابة والكبح، لذلك تجد الذات تنطلق لتحقق حاجاتها الغريزية بأي وسيلة شأنه أن يفرز فيما بعد عقدة الذنب وتأنيب الضمير فيبحث عن العقاب ليتخلص من هذه العقدة فيسعى إلى ارتكاب الجريمة لتوقيع العقاب عليه.
غير أن نظرية فرويد رغم الإضافة التي قدمتها لتحليل دوافع الجريمة وأسبابها فإنها تعرضت لانتقادات لاذعة بسبب ارتكازها على التحليل النفسي وبالتالي تستعصي على التحليل العلمي، بالإضافة إلى أن الاضطرابات النفسية ثبتت أنها لا تقود بالضرورة إلى السلوك الإجرامي [9] .
II – المدرسة الاجتماعية الأوربية
جاء التصور الاجتماعي للظاهرة الإجرامية كرد فعل ضد التصورات البيولوجية التي استبعدت كل تأثير للأوساط الاجتماعية فيها وفي المرحلة التاريخية ذاتها حمل مجموعة المفكرين الأوربيين على عاتقهم مسؤولية وضع الفعل الإجرامي في سياقه وليس الاكتفاء بحصره في الحالة الفيزيولوجية للمجرم وأهم أقطاب المدرسة الاجتماعية الأوربية نجد أمثال: لاكساني وتارد ودوركهايم.
4- نظرية الوسط الاجتماعي */ لاكساني Lacassagne
ركز صاحب نظرية الوسط الاجتماعي على التأثير البالغ للوسط الاجتماعي في مجال خلق الجريمة وتتلخص في كون المجتمع هو الذي يصنع الجريمة وأن "المجتمعات ليس بها من المجرمين أكثر مما تستحق [10] فالوسط الاجتماعي هو الوعاء المنشط والملائم للإجرام، والمجرم لا يظهر إلا في الوسط الذي يسمح له بالظهور كأنه جرثومة لا أهمية لها إلا إذا وجدت الحقل المناسب لنموها.
ويرجع لهذه النظرية فضل توجيه الأنظار إلى الجوانب الاجتماعية للإجرام، لكن يؤخذ عليها أنها أهملت الجوانب الفردية للإجرام، وهي لا تفسر الكيفية التي يؤثر بها الوسط على ثلة من أفراد المجتمع هم المجرمين دون غيرهم ممن يعيشون في نفس الوسط وقد حاول العالم "غابريال تارد" إيجاد تفسير لكيفية تأثير الوسط على الفرد بما يدفعه إلى ارتكاب الجريمة [11] .
2- نظرية التأثير النفسي الاجتماعي / غابرييل تارد G.Tarade
تجنب "غابرييل تارد" التكوين العضوي للمجرم معتبرا أهمية المحيط الاجتماعي في ظهور السلوك الإجرامي مركزا على عوامل نفسية واجتماعية هي "التقليد" و"التنشئة الاجتماعية" و"المعتقدات الثقافية" فعوامل انحراف الفرد وخروجه عن أنماط السلوك الاجتماعي إنما ترجع أساسا إلى عوامل يغلب عليها الطابع الاجتماعي، بل الإمكانيات والاختيارات الممنوحة والمنحة للأفراد وحيتهم في التفضيل بين المنهج السوي والمنهج غير السوي تبقى هي المؤشر على استعداد بعض الأفراد وميولهم لاختيار طريق الجريمة.
هكذا يكون احتراف الجريمة في نظر "تارد" خلاصة تمرين وتدريب وظروف تنشئة مثلها مثل غيرها من الحرف والمهن مع فارق بسيط هو أن المجرم ينشأ ويتربى في بيئة إجرامية ساعدت على انخراطه في الجريمة [12] .
إلا أنه يلاحظ على "تارد" بقي متشبتا بقانونه الأخلاقي الذي ربطه بالجريمة واعتبر أن مستوى الإجرام هو مؤشر حقيقي للأخلاق في المجتمع مما يعكس تلازم وتماسك دائرة الأخلاق ودائرة القانون، في حين أن هذا التلاؤم لا يصدق إللا على جانب ضئيل من الجرائم التي تمس الشعور العام بالعطف والاستقامة، لتبقى الجرائم الاعتبارية والاصطناعية التي تكون من وضع المشرع في ظرف ومكان معينين بعيدة عن هذا التحديد.
3- نظرية البنية الاجتماعية والثقافية / إيميل دوركايم E.Durkheim
يعتبر مؤسس علم الاجتماع "إيميل دوركهايم" صاحب هذه النظرية، أن الجريمة ظاهرة طبيعية يجب قبولها على أنها تعبير له وظيفته، فهي موجودة في جميع المجتمعات في كل الأزمنة، لكنها تصير ظاهرة مرضية غير عادية فقط حينما ترتفع أو تنخفض عن المتوسط أو المعدل، ولا يمكن اعتبارها مرضية حينما لا تؤثر سليا في المهام الوظيفية للمجتمع حيث أ، الجريمة ليست عرضية وإنما هي من صفات المجتمع وتركيبته وثقافته، فالفرد يعتبر جزءا من المجتمع لذلك فإن جنوحه وخروجه عن قواعد السلوك الجماعية لا يمثل ظاهرة مرضية شخصية وإنما يعتبر ذلك ناشئا عن المجتمع مباشرة وعما يتصف به من خصائص لذلك فإذا كانت الجريمة لازمة ولا تخرج عن المعدل المتوسط للمجتمع فإنها عادية وطبيعية بل وتعتبر علامة صحة المجتمع وسلامة نظمه ومؤسساته [13] .
كما أن "دوركهايم" استعمل مفهوم الأنومية أو اللامعيارية واعتبرها سببا للانحراف الاجتماعي، وتعني حالة الأنومية حالة اللاقانون أو اللانظام الذي يجد الفرد نفسه فيها مع افتقاره إلى قاعدة أو معيار لسلوكه السوي مقارنة مع السلوك غير السوي وفي هذه الحالة غالبا ما تنتج عن الصراع أو التناقض الذي يعيشه الفرد في علاقته الاجتماعية. وخاصة الواجبات والمتطلبات اليومية للحياة، بحيث تكون هذه الحالة تعبيرا عن أزمة وحاجة العلاقات الاجتماعية للقيم التي تحفظ لها تناسقها ووظيفتها مما ينعكس على الفرد ويدفعه إلى العزلة ومعاداة مجتمعه أمام غياب معايير وقواعد تقوم بدور الضبط الاجتماعي ويؤكد "دوربكهايم" أن ضعف المجتمع وتهاونه في احتضان الفرد إليه بحيث أن هذا الأخير يصبح في حل من كل قيد اجتماعي أو خضوع أو احترام لطقوسه ويعتقد أنه أصبح جزءا فوق العادة ولا شيء يلزمه نحو مجتمعه (ضعف الإكراه الاجتماعي) فيستبيح ارتكاب الجرائم التي تصبح في نظره وسائل مشروعة لتحقيق ما عجز المجتمع عن توفيره له وهي الحاجيات الطبيعية التي بدونها لا يمكن للحياة أن تستقيم [14] .
III - المدرسة الاجتماعية الأمريكية
اعتمد الأمريكيون في تفسير الجريمة التصور الاجتماعي وذلك بردها إلى عوامل اجتماعية، وتأثرا بالإرث الأوربي خصوصا إسهامات "دوركهايم" الوضعية الموضوعية، تأسست المدرسة الأمريكية بخصوصيات جديدة معتبرة أن السلوك الإجرامي نابع عن نفس العوامل التي ينجم عنها أي سلوك اجتماعي آخر، فكان الرابط بين هذه السلوكات والتنظيم الاجتماعي هي السمة الغالبة على نشأة هذه المدرسة، ومن ثمة فإن النظريات الاجتماعية تنطلق من دراسة الانحراف كظاهرة اجتماعية تخضع في حركتها وانتشارها لقوانين حركة المجتمع، وانطلاقا من هذه الخصوصية سنحاول أن نستعرض لثلاثة نظريات اجتماعية تختلف في منطلقاتها لتفسير السلوك الإجرامي وهي مجموعة تمثل المدرسة الأمريكية.
- 5 - نظرية العوامل السائدة
اتخذت هذه النظرية من الدراسات الاجتماعية أساسا لمنهجيتها وبحثها عن أسباب الجريمة واعتمدت أسلوب التحليل الإحصائي وربطت الجريمة بالمتغيرات المختلفة التي تحدد السلوك الإجرامي مع حصر هذه المتغيرات مثلا البطالة، السن، الجنس، الحالة الثقافية، الحالة السكن، الحالة الصحية...، وبعد تحديد المتغيرات المختلفة ومقارنتها بالمعطيات الأولية التي يتوفر عليها الباحث، يعمد هذا الأخير إلى استخلاص العوامل التي تلازم ظهور السلوك المنحرف بواسطة معامل الارتباط كي يتمكن من تصنيف المتغيرات حسب درجة ارتباطها بالجريمة وبالتالي الخروج بأكثر العوامل ذات علاقة سببية بالظاهرة [15] .
وجهت انتقادات لهذه النظرية وكان من بينها تلك الانتقادات التي خصت المستوى المنهجي ذلك أن الإحصاء يهدف إلى تلخيص الوقائع والجرائم في سلسلة من الأرقام التي تسمح باستخراج قوانين تفسيرية للظاهرة الإجرامية، مما يستبعد الفروق الفردية الدقيقة ويسعى إلى تأطير استقرائي يتجاوز النوعية من حالة إلى أخرى، مع أنه يبقى الفعل الإجرامي له جوانب من الفرادة والخصوصية تستعصي على التعميم وإخراجه من حالته الفردية ولحظته الزمنية تجعله قابلا للتمطيط.
-2-نظرية الاختلاط التفاضلي/ "سذرلاند" Sutherlan
يرفض اعتبار السلوك الإجرامي سلوكا موروثا، فالإجرام لا يورث، وإنما يكتسب بالتعلم الذي يحدث من نتيجة انخراط الفرد في جماعة، ويحدد نوع وقواعد السلوك والقيم السائدة فيها ما إذا كان الفرد سيتعلم الإجرام أم لا، فإن كان أفراد هذه الجماعة ممن يحترمون القانون ويلتزمون بأوامره ونواهيه، تخلق الفرد بأخلاقهم وتعلم منهم السلوك المتفق مع القانون، أما إن كانوا ممن يؤيدون انتهاك القوانين ويميلون لمخالفتها، فالغالب أن ينهج الفرد نهجهم ويتعلم منهم خصالهم مما يؤهله لاقتراف الفعل الإجرامي، فيكون انحرافه أمرا مؤكدا إذا اقتصر في علاقاته على أفراد جماعته، وعزل الجماعات الأخرى التي يغلب على أفرادها احترام القانون [16] .
حسب "سذرلاند" لا يمكن إرجاع السلوك الإجرامي في جميع الأحوال إلى الفقر أو إلى مجرد عوامل سائدة كالظروف والعوامل النفسية والاجتماعية التي تتصل بالفقر والفقراء، فهناك أشخاص ينتمون إلى طبقات غنية ومع ذلك يرتكبون بعض الجرائم كجزء من نشاطاتهم المهنية وهنا جاء تركيزه على الجرائم التي يرتكبها ذوو الياقات البيضاء أو الجرائم الخاصة، لذلك فهو يرى أن السلوك الإجرامي يتعلمه الأغنياء والفقراء على السواء بطريقة واحدة وبعمليات متشابهة، بذلك حاول "سذرلاند" شرح سلوك المنحرف المتعلم أو المكتسب الذي يظهر نتيجة صراع بين معايير الثقافات المختلفة التي يتكون منها المجتمع الأمريكي، هذا السلوك يظهر حينما تطغى المعايير الجانحة في جماعة ما على المعايير المتكيفة التي تحكم المجتمع الكلي [17] .
ومن بين المؤاخذات التي وجهت ل "سذرلاند" كون الفرد في كثير من الأحيان لا يكون مجبرا على الانتماء إلى جماعات منحرفة، إن لم يكن هو شخص منحرف، كما أنه لم يأخذ بعني الاعتبار الاختلافات داخل المجموعة الواحدة ودور الفرد في هذا الاختلاف ففي الوقت الذي يتبنى البعض موقفا إجراميا ينجح آخرون في احترام القانون ويكون العنصر من المجموعة قادرا على التأثير والاختيار بين أحد الجانحين وتركيز "سذرلاند" على التعلم واستبعاد العامل الشخصي الداخلي اصطدم بطروحات تقول عكس ذلك، لأن الفرد قد لا يكون في حاجة لمن يعلمه السلوك المنحرف بقدر ما يكون في حاجة إلى تعلم السلوك السوي فالطفل مثلا بطبيعته ميال إلى الكذب والخداع وإذا ترك بغير تربية ولا تهذيب فإنه يكبر نازعا إلى الإجرام.
3- نظرية التراخي الاجتماعي "ميرتون"
اعتمد "ميرتون" في نظريته على تجاوز العوامل المنعزلة واهتم بالبنية الاجتماعية بما فيها من تناقضات تدفع بالفرد إلى الخروج عن التنظيم الاجتماعي والسقوط في الإجرام بفعل غياب المعايير الاجتماعية، وحاول "ميرتون" أن يعتمد نظرة متكاملة للمجتمع الأمريكي. فانطلق من تحليل البنية الاجتماعية محاولا معرفة الأسباب التي تدفع إلى السلوك الإجرامي، وتوصل إلى حصر هذه الأنماط السلوكية اعتمادا على مفهوم اللامعيارية أو حالة عدم النظام التي تسيطر على المجتمع وتجعله بدون وسيلة ثقافية يعتمدها الناس لتحقيق رغباتهم فيضطرون إلى الإجرام، فمرجع أسباب الجريمة والجنوح هو ردود فعل الفرد وتكيفه مع التناقضات التي تفرزها الثقافة السائدة لمجتمعه، وبما أن أغلب الرغبات والغرائز ليست بالضرورة طبيعية وإنما هي مجموعة من الأهداف والإغراءات التي ينتجها المجتمع وتكرسها الثقافة السائدة فيه، فإن عدم توفير الإمكانيات وإتاحة الفرص لجميع فئات المجتمع لتحقيقها فإنه من الضروري أن يظهر أفراد يعمدون إلى وسائل غير مشروعة في تحقيق إشباع ما تتطلبه الثقافة بعد أن تعذر تحقيقها بوسائل مشروعة، هكذا ميز "ميرتون" بين عنصرين هامين هما [18] :
- الأهداف والمعايير: الهداف هي تلك الاهتمامات التي تكون مشروعة وتشكل آمال وتطلعات يسعى كل فرد لتحقيقها وتتدرج بالترتيب حسب أهميتها في سلم القيم الاجتماعية.
- أما المعايير: هي مجموع القواعد التي تحكم السلوك وتضبط وسائل الوصول إلى الأهداف فسلوك الإنسان مرتبط بهذين العنصرين ومدى ترابط العلاقة بينهما وكلما كانت الصلة متوازنة كان السلوك متوازنا، وإذا تم التركيز على الأهداف دون اعتبار للمعايير تصبح كل الوسائل مشروعة أو غير مشروعة.
- مقبولة في نظر الشخص لتحقيقها وبالتالي ينتج السلوك الإجرامي عن هذا الاختلال
4- النظرية البيئية / كليفورد شو
ارتكزت مقاربة شو للظاهرة الإجرامية على المعطيات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمنطقة محددة بحيث تكون هذه الأوضاع هي المسؤولة عن الجريمة بها، وهو ما يعني أن الجانب العضوي والنفسي للفرد ليست هي العامل الحاسم بل الظروف الاقتصادية السائدة والمحيط الاجتماعي والبيئي، وقد ركز شو في نظريته على المجالات العمرانية والسكانية غير الملائمة والتي تنتشر فيها كل أشكال الجرائم (أحياء الضواحي- هوامش المدن)، وهو ما يجعل شو يلتقي موضوعية مع نظرية لاكساني في دور الوسط الاجتماعي في الجنوح.
وقد ساهمت أبحاث "شو" في تركيز الاهتمام على المراكز الحضرية والظاهرة الإجرامية والتي خلصت إلى وجود نوع من التمايز ما بين جرائم البوادي وجرائم الحواضر
التعديل الأخير بواسطة المشرف: