سوريا اليوم
مراسل صقور الأبداع من سوريا
د.خطار ابو دياب : الجمهورية
وما يعزز هذا الانطباع مستوى العنف والمجازر في الساحل السوري التي تشبه “التطهير المذهبي” من جهة، واستعصاء الوضع السوري عموماً من جهة أخرى. ويتوازى ذلك مع احتدام لعبة الأمم عبر الانغماس الكثيف للمحور الإيراني والغارات الإسرائيلية ضد دمشق ومحيطها. تدل قراءة تاريخ المشرق على عدم استفادة العرب من التحولات الدولية ودفع الثمن غالياً على حساب المحاولات النهضوية.</p>وهذه الواقعية الحذرة غير مبالغ فيها، إذ ظنَّ العرب بداية انبثاق نهضتهم مع نهاية الامبراطورية العثمانية، لكن سرعان ما خابت الآمال وطغى التفتت والفرقة عبر ترتيبات المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وفق اتفاقية سايكس ـ بيكو المبرمة بين منتصري الحرب العالمية الأولى.
وزيادة على تفاعلات الصراع مع إسرائيل، أتت نهاية الحرب الباردة وحقبة الأحادية الأميركية لتتسبب بانهيار النظام الإقليمي العربي إثر حرب العراق في نيسان 2003. ومنذ ضرب العراق قلب العالم العربي وخط التماس بين العرب والأكراد والترك والفرس، وخط التقاطع بين السنّة والشيعة، جرى تهميش وتغييب القرار العربي بين ثلاث قوى إقليمية هي إسرائيل وإيران وتركيا.
هكذا منذ بدايات القرن الحادي والعشرين ارتسم مشهد إقليمي ملتبس في الشرق الأوسط وتصادمت المشاريع المتناقضة لإعادة تركيب المنطقة وهي تختصر بالمشروع الأميركي عن “الشرق الأوسط الكبير” (الذي تعثّر بصيغته التبشيرية الاولى حول قشور الديموقراطية)، والمشروع الإيراني عن “الشرق الأوسط الإسلامي” تحت زعامة طهران (يروي أبو الحسن بني صدر في مذكراته أنّ الإمام الخميني ابلغه أن إيران ستتزعم العالم الإسلامي لمدة أربعة قرون كما العثمانيين) والمشروع التركي المتبلور مع أردوغان منذ 2007 والهادف لاستعادة النفوذ المفقود.أما بالنسبة إلى إسرائيل المستفيدة الأولى من الضعف البنيوي العربي، فقد وجدت ضالتها في تهميش القضية الفلسطينية بالقياس لإقليم منشغل بمشاكل متعددة.
انطلاقاً من الحدث التونسي، شكل زمن الحراك الثوري العربي محاولة يقظة جديدة وخصوصاً بالنسبة إلى شباب مغرب العالم العربي ومشرقه.
ومع أن عدم الاستقرار لا زال السمة السائدة من ليبيا إلى مصر واليمن، لكن بلورة المشهد الإقليمي وتوازناته سيتوقف كثيراً على خلاصات النزاع السوري الذي تحول إلى حرب مدمرة وإلى لعبة أمم إقليمية ودولية.
مقابل الحماية الروسية – الإيرانية للنظام السوري، لم تحظ القوى المعارضة برعاية من هذا النوع وأربكها ارتكاب إدارة اوباما خطأ جيو استراتيجياً فادحاً في عدم لعب دور قيادي وترك الوضع يهترئ، مما زاد من مخاطر صعود استخدام السلاح الكيميائي والتطرف والتفكيك والنزاع الطائفي. ومع تفاقم الوضع وبروز خطر اشتباك إقليمي واسع مباشر أو بالتقسيط والتدريج، لا يزال ثمة من يراهن على ترتيب او صفقة أميركية – روسية ترمم الوضع وتتيح إنتاج تسوية سياسية.
في هذه الأجواء وعلى وقع “ديبلوماسية المدافع والصواريخ” فوق الصفيح السوري الساخن، أتت زيارة جون كيري إلى موسكو في السابع من أيار وقد تمخضت بعد لقاء ماراتوني في الكرملين عن إعطاء دفع جديد لوثيقة جنيف (30 حزيران 2012) مع السعي إلى عقد مؤتمر دولي آخر ايار بمشاركة الحكومة والمعارضة السورية.
بَيد أن القراءة الاولية تشير إلى أنّ الغموض البناء لا يزال سيد الموقف، وهو في الحالة السورية هدام لأن عدم توضيح مصير الرئيس السوري ومشاركته أو عدمها في انتخابات 2014، لا يَشي باتفاق محكم بل بحبكة تحتاج لتدعيم مع مخافة غرقها في شياطين التفاصيل (مثل اختيار ممثلي النظام والمعارضة) بعد اصطدام الخطوط الحمر التي ألهبت جبل قاسيون وبعد سيلان الدم القاني في البيضا وبانياس والقصير، اتّسعت الخشية من إعادة تركيب المنطقة مع سعي إلى رسم حدود كانتونات او دويلات في سياق رقصة الجنون الدموي على ارض سوريا.
من هنا تأتي التوقعات او التصورات حول إمكان بلورة اتفاقية سايكس – بيكو جديدة بناء على استنتاج يصعد منذ حرب العراق وخلاصته أنّ الحدود والكيانات القائمة غير قابلة للحياة.
لكن هذه الاتفاقية التي يمكن أن يطلق عليها يوماً اتفاقية لافروف – كيري لا يبدو أنها على الأبواب. إن احتدام الصراع الداخلي وحجم المصالح الاقليمية والدولية يقودنا الى الاستنتاج بأنّ وظيفة النزاع السوري الجيوسياسية لم تستنفد بعد وبأن الآتي أعظم.